المخيمات ومخاطر الاتجار بالبشر نازحون يلاحقهم الاستغلال

الشبكة العراقية في مثل هذا الوقت من كل عام، تتصدّر صور المخيمات الشاشات. تُرفع شعارات (الأمل) و(الكرامة) و(العودة الآمنة)، بينما لا يزال أكثر من مليون نازح داخل العراق يحملون في ذاكرتهم تاريخًا لم ينتهِ بعد، وفصلًا طويلًا من حياة علّقت في خِيمهِ. منذ العام 2014، حين اجتاح الإرهاب مدن الموصل وسنجار والأنبار، ارتفعت في البلاد خيمٌ مؤقتة صارت مدنًا بديلة. وبلغ عدد المخيمات في أوج الأزمة أكثر من 170 مخيمًا. اليوم، لم يتبقَّ منها سوى 21 مخيمًا، جميعها في إقليم كردستان، وتضم أكثر من 109 آلاف نازح. لكن الأرقام لا تروي القصة كاملة.في تموز 2024، أعلنت الحكومة العراقية عزمها إغلاق ما تبقى من هذه المخيمات، في محاولة لطيّ ملف النزوح نهائيًا. الخطة حملت عنوان (العودة الطوعية)، لكنها واجهت رفضًا صامتًا من آلاف العائلات التي لا تجد في مدن العودة غير الركام او فقدان أبسط مقومات الحياة. في سنجار مثلًا، تعيش الإيزيديات الناجيات من داعش بمخيمات في دهوك، رافضات العودة إلى منطقة لم تُؤمَّن بشكل كامل بعد. في الأنبار، حيث عادت الحياة إلى بعض المدن، يواجه العائدون صعوبات في إعادة إعمار منازلهم التي سُوِّيت بالأرض. لاجئون من سوريا في خضمّ هذا الواقع، يعيش اللاجئون، أولئك القادمون من سوريا تحديدًا، أوضاعًا مشابهة أيضًا. أكثر من 334 ألف لاجئ وطالب لجوء في العراق، 90 % منهم سوريون، يقيم معظمهم في المخيمات والمدن داخل إقليم كردستان. هؤلاء، أيضًا، أمام مستقبل غير واضح، في ظل نقص التمويل الأممي المتزايد، وضغوط دولية متصاعدة لإعادتهم إلى سوريا، رغم أن بلادهم ما زالت تتنازعها الجبهات. في تقاريرها الأخيرة، تقول المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إنها طلبت ما يزيد على 203 ملايين دولار لدعم اللاجئين والنازحين في العراق، لكنها لم تتلقَّ سوى أقل من نصف المبلغ. النتيجة؟ مدارس مؤقتة تُغلق، عيادات صحية تختصر خدماتها، وخبز يومي صار مشروطًا ببطاقات التموين والمساعدات الطارئة. من خيمة إلى فخ لكن المشهد لا ينتهي عند الخيمة. ففي غياب البنية التحتية، والتعليم، والدخل المستقر، يصبح النازحون واللاجئون فريسة سهلة لشبكات الاتجار بالبشر، التي تنشط على هامش المخيمات والمدن الهشة. في عام 2023 فقط، اعتقلت السلطات العراقية 1866 شخصًا في قضايا مرتبطة بالاتجار بالبشر، بينهم 1230 متسولًا و636 متهمًا بجرائم اتجار. من بين هؤلاء، جرى تسجيل 204 ضحايا، غالبيتهم من النساء والأطفال، وتورّط 202 شخص في جرائم استغلال جنسي. ثلثا الضحايا كانوا دون سن الـ16. هؤلاء، لم تلتقطهم الحرب فحسب، بل رمتهم في أسواق السرّية: تسوّل منظَّم، عمل قسري، أو بيع تحت عناوين (كفالة)، و(خدمة منازل)، و(عقود مؤقتة) تخفي تحتها شبكات كاملة. تتحدث التقارير الأمنية عن تزايد العاملات في نوادي الليل ومراكز (المساج)، التي تستقطب نساء وفتيات قاصرات، يُجلب بعضهن من المخيمات بعد إقناع عوائلهن بوعود (الزواج)، أو (العمل الشريف). وفي كثير من الحالات، لا يُبلَّغ عن الضحايا خوفًا من العار. الناجيات اللواتي يصلن إلى مراكز الإيواء القليلة في بغداد أو السليمانية، يتحدثن عن عنف مضاعف: ضرب، وتهديد، وتصوير مخلّ يُستخدم للابتزاز. وبينما تشير منظمات حقوقية إلى أن الظاهرة في تصاعد، تبدو الأدوات الرسمية محدودة جدًا، ومقيدة بتشريعات بالية. مؤشرات خطيرة بالرغم من إعلان وزارة الداخلية عن لجنة عليا لمكافحة الاتجار بالبشر، وافتتاح دور إيواء، فإن البنية القانونية تفتقر إلى أدوات فعّالة، بحسب تقارير محلية. إذ لا تزال العقوبات مخفّفة، وغالبًا ما يُسجَّل المتهمون كمخالفين، لا كمتاجرين. التمويل الدولي المخصص لهذا الملف يعاني أيضًا من عجز حاد، وغياب لبرامج التأهيل النفسي والاجتماعي. في المقابل، تصاعدت الدعوات لتعديل القوانين، وإنشاء مراكز حماية في جميع المحافظات، وإطلاق حملات توعية تركز على الفئات المستهدفة. بين نازح يرفض العودة إلى مدينة مدمّرة، وطفل يُستغل في الشوارع باسم الحاجة، تُطوى الخيام تباعًا في العراق، لكن الأسئلة تبقى: ماذا بعد؟ هل يُمكن للبلد أن يغلق ملف النزوح دون أن يفتح جراحًا أعمق؟ وهل يستطيع أن يواجه جريمة الاتجار بالبشر ما دام الفقر يقدم الضحايا بلا توقف؟ في اليوم العالمي للاجئين، لا يحتاج العراق إلى بيانات تضامن، بل إلى سياسات تُنقذ وتعيد للناس حقهم الكامل في الأمان، والعدالة، والمستقبل.