100%
أحمد سعداوي
ليست عاشوراء مجرد طقس ديني، وإنما هي مجال ثقافي كامل، ابتداءً من أداء الحنجرة البشرية، والشعر ومجازاته واستعاراته التي يؤدّيها المنشدون، وألوان الملابس وأكسسواراتها والرايات، وليس انتهاءً بالمطبخ وأنواع الطعام الخاص المرتبط بطقوس عاشوراء، ثم التقاليد الاجتماعية الخاصة بتوزيع الطعام. فهو هنا، في حدوده المعروفة، كان نوعًا من الرابطة الاجتماعية، وليس إطعاماً لجائعٍ لا يجد قوته.
جرى إيقاف هذه الطقوس في أواخر السبعينيات من قبل السلطة، لأنها كانت ترى فيها فضاءً لتغذية المعارضة ضد النظام، واستمر هذا المنع والتضييق حتى سقوط الديكتاتورية عام 2003!
بالعودة إلى أواخر السبعينيات، حين كنت طفلًا في الخامسة أو السادسة من عمري، كانت جدتي أم فيصل (ارهيْفة شرهان) تواظب على طبخ الهريسة كل عام، حتى وفاتها. وكنت أشارك، طفلًا، في توزيع الصحون على بيوت الزقاق، وتسلّم الفارغة منها. كنت أسكب، بصعوبة، صحن الهريسة في صحنٍ آخر يأتي به الجار، من دون أن تتخرب نقشة الدارسين على سطح الهريسة.
توقّفت جدتي، بسبب المحاذير الأمنية، عن تشغيل (القرايات) بصوتٍ عالٍ في باحة البيت أثناء إعداد الهريسة في قدورٍ كبيرة، مرةً على الحطب، ولاحقًا على طبّاخاتٍ أرضية كبيرة تعمل بالغاز. لكنها ظلّت مصرّة على الطبخ، ولم أكن أفهم سبب إصرارها على الرغم من توقّف الآخرين خوفًا من السلطة. ربما كانت عادةً، أو لأنه مرتبطٌ بنذرٍ ما، أو لأنها ببساطةٍ تتواصل، من خلال الطبخ العاشورائي، مع عناصر هويتها وشعورها بأهمية ما تقوم به. وحين كبرتُ استطعت أن أفهم أن هذا الطقس قد يكون نوعًا من المقاومة، حتى وإن لم تقصد جدتي ذلك.
مع (ارهيْفة) فهمت أن هذه الطقوس لا يمكن إفناؤها من قبل السلطة، مهما حاولت منعها أو حذفها من الذاكرة المجتمعية، كما لا يمكن للسلطة أن ترعاها، أو توهم أتباعها بأن وجودها يحمي هذه الطقوس؛ فهي ملكٌ للمجتمع، والمجتمع هو من يدافع عنها إن رغب بذلك، يحسّنها، ويطوّرها، ويستعملها في كل الأحوال لغايات دينيةٍ روحيةٍ، وأيضًا لمزيدٍ من الروابط الاجتماعية، والتذكير بعناصر الخير في النفس البشرية. فهي، في الأصل، طقوس محبةٍ وتعاونٍ وعطفٍ على الغريب، لا كراهيةً ولا إقصاءً.
وعلى خلاف الارتباط الشائع لدى كثيرين بين الطقوس العاشورائية و(القيمة والتمّن)، صار صحن الهريسة الذي تعلوه خطوطٌ عشوائيةٌ من الدارسين، بالنسبة لي، يحيل إلى ذاكرةٍ أكثر كثافة، مرتبطةٍ بالثقافة الشعبية، وذاكرةٍ شخصيةٍ عن باحة بيتٍ فقيرٍ تصدح فيه قراياتٌ حسينية، وتفوح منه رائحة القدور الكبيرة التي تسوطها جدتي بحميةٍ ونشاطٍ. ليس لإطعام العائلة في البيت، وإنما لاتصالٍ روحانيٍ واجتماعيٍ مفعمٍ بقيم الخير والمحبة.