100%
رعد كاظم جبارة
مع مطلع شهر محرّم من كل عام، تتشح المدن العراقية بالسواد، إيذانًا ببدء موسم عاشوراء، الذي يُعدّ من أهم الشعائر الدينية لدى المسلمين الشيعة. ففي يوم العاشر من محرّم، استشهد الإمام الحسين بن علي، حفيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في معركة الطف سنة 61 هـ، إلى جانب أهل بيته وأصحابه، بعد وقوفه بوجه ظلم الدولة الأموية. ومنذ ذلك الحين، تحوّل يوم عاشوراء إلى يوم عزاء وحزن واستذكار لقيم الحق والعدالة والكرامة.
تنطلق المجالس الحسينية في جميع أنحاء العراق، حيث يتجمّع الآلاف للاستماع إلى الخطباء الحسينيين، الذين يروون واقعة الطف من على المنبر، ويُسلّطون الضوء على أبعادها العقائدية والإنسانية. ويمتد هذا التقليد عبر الأجيال ليحفظ قصة الامام الحسين عليه السلام، ويستنهض الضمير الجمعي للأمة.
مدرسة التضحية والفداء
المنبر الحسيني، منذ تأسيسه، لم يكن مجرد وسيلة لبكاء أو استذكار، بل شكّل منصة تثقيفية، ومحرابًا تعبويًا لزرع القيم، وتحريك المشاعر باتجاه التضحية والعدل ومناهضة الظلم. ويُنسب الفضل في تقنين هذه الشعائر إلى الإمام الباقر عليه السلام، حفيد الإمام الحسين، الذي عمل على تأصيل الذكرى في الوجدان الشيعي، ثم تبلورت أكثر في العصور اللاحقة، إلى أن جاء الشيخ المفيد، أحد أعلام القرن الرابع الهجري، فارتقى المنبر الحسيني بمستوى علمي وفكري رصين، محوّلًا الواقعة من مجرد طقوس حزن إلى منهج مقاومة فكرية وروحية.
في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية المعاصرة، يبرز المنبر الحسيني كأداة فاعلة في تشكيل الوعي الجمعي، ولاسيما في المجتمعات التي تعاني من الظلم والتهميش. فخطاب عاشوراء لا يقتصر على البُعد التاريخي، بل يحمل رسالة إصلاحية دائمة، تُلهم الحركات المطالِبة بالعدالة وحقوق الإنسان. لقد تحوّل الإمام الحسين عليه السلام إلى رمز عالمي للمقاومة، يُستشهد به في حركات تحرر متعددة حول العالم، بما في ذلك جنوب آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.
إن الحضور اللافت للمنبر الحسيني في الوسائط الحديثة، من خلال البث المباشر، والمنصات الرقمية، واليوتيوب، أتاح للشباب فرصة التفاعل مع مضامينه، وربطه بالقضايا اليومية والاجتماعية والسياسية. وقد برز جيل من الخطباء الشباب الذين يحاولون إعادة قراءة واقعة الطف من منظور معاصر، يتقاطع مع مفاهيم حقوق الإنسان، وحرية الضمير، والعدالة الاجتماعية، ليُبقي عاشوراء حيّة في الضمير والواقع معًا.
أعلام المنبر الحسيني
من أبرز أعلام الخطابة الحسينية في العصر الحديث، يأتي اسم الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (1928–2003) في المقدمة. وُلد في النجف الأشرف لعائلة علمية وأدبية، وحاز الدكتوراه من جامعة القاهرة، وأرسى قواعد الخطابة المنبرية الحديثة بمزجها بين الدين والفكر والأدب. لُقّب بـ "عميد المنبر الحسيني"، وكان محطّ احترام واسع لدى مختلف الأوساط، لما امتلكه من ثقافة موسوعية، وبلاغة رفيعة، وسعة أفق أهلته ليكون أحد رموز النهضة الدينية المعاصرة.
كما سطع نجم الخطيب الشعبي السيد جاسم الطويرجاوي (1947–2020)، الذي جسّد واقعة الطف بأسلوب عاطفي مؤثر عبر الشعر الشعبي، وكان صوتًا حنونًا يهز المشاعر ويستدر الدموع. عُرف بقربه من الناس، وبساطته، وأقام مجلسًا حسينيًا أسبوعيًا في حرم الإمام الحسين عليه السلام استمر لأكثر من 18 سنة دون انقطاع، وهو ما عزز حضوره الجماهيري الكبير.
ومن الأسماء البارزة أيضاً، الشيخ الراحل ياسين الرميثي (1929–2005)، شاعر ومنشِد حسيني كبير، وُلد في مدينة الرميثة بمحافظة المثنى، وقاد موكب أهالي السماوة في أربعينيات الإمام الحسين لعقود طوال. كتب وأدى قصائد خالدة، لعل أشهرها: "يحسين ابضمايرنه"، التي بقيت تتردد في مواكب العزاء حتى اليوم. اعتقل مرات عدة بسبب نشاطه، ونُفي خارج العراق بعد انتفاضة 1991، ثم عاد عام 2003، وتوفي بعد عامين في تشييع مهيب.
شعائر عاشوراء
المنبر الحسيني تجاوز الحدود الجغرافية، فبلغ صداه مجتمعات شيعية في الخليج والهند وإيران ولبنان وحتى الغرب. ومن أبرز الخطباء المعاصرين في شرق السعودية، الشيخ حسن الخويلدي، الذي وُلد في مدينة صفوى عام 1960، لعائلة اشتهرت بورعها وخدمتها للناس. تميز خطابه بالحكمة والتوازن، وبقدرته على مخاطبة العقل والروح معًا.
ويبقى المنبر الحسيني حيّاً بفضل أولئك الذين حفظوا قيم عاشوراء، وجسّدوا رسالتها بدموعهم، وصوتهم، وشعرهم، ووعيهم. إنه ليس منبرًا للحزن فقط، بل منبر لإحياء الضمير الإنساني ورفض الظلم، فـــــــي كــــل زمان ومـــــكان.