100%
نرمين المفتي
شهر محرم لا يعني فقط بدء سنة هجرية جديدة بكل ما تحمله رحلة الهجرة النبوية الشريفة من إصرار على المضي لإكمال رحلة النور التي بدأها، بكلمة من الله سبحانه، المصطفى محمد (صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحبه الميامين وسلّم)، إنما يعني أن يتممها حفيده الإمام الحسين (عليه السلام) بإصرار على الحق، الرحلة التي سطّرها الإمام الحسين، بدمه وصبره وموقفه، حاملًا روحه وأهله وأصحابه، لأنه أبى أن يُطفئ صوته أمام سطوة الجور، لا إلى نصر دنيوي، بل إلى شهادة تُخلّد الموقف، وتُطهّر الطريق، وتُعيد تعريف الانتصار في مقاييس السماء.
لم يخرج الحسين طلبًا لملك أو طمعًا في جاه، بل ترك مكة يوم التروية، في الثامن من ذي الحجة سنة 60 للهجرة، ويا للمفارقة، ليرتقي شهيدًا مع آل بيته وأصحابه عطشى في العاشر من محرم سنة 61 للهجرة، ليحفظ حرمة البيت، ويواصل درب الإصلاح، قائلًا: "إني لم أخرج أشِرًا ولا بطِرًا، ولا مُفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر."
كان يعرف أن الطريق محفوف بالخطر، لكنه لم يكن ليرضى بدينٍ يُفرّغ من عدله، أو أمة تُقاد بالخوف، أو حكم فاسد متغطرس. ومع كل خطوة نحو كربلاء، كانت رسالته تتجلى؛ وهي أن الإصلاح لا يكون إلا بالتضحية، والحق لا يُصان إلا حين يُنتزع من بين أنياب المتجبر، ولا تُقام العدالة ما لم تُروَ بالدم النقيّ والنية الخالصة.
لم تكن الطف - كربلاء صدفة في التاريخ، بل كانت نداءً خالدًا انطلق من روحٍ ترى الله قبل كل شيء، ومع كل شيء، وبعد كل شيء. قال الحسين: "إيّاكَ وظُلمَ مَن لا يَجِدُ عَلَيكَ ناصِرًا إلاَّ اللّه" ومضى، كأنما يُعلّم الإنسان كيف يكون الإنسان.
في كل زمن، هناك كربلاء. ليست مكانًا، بل لحظة يواجه فيها الإنسان خيارًا أخلاقيًا بين أن يصمت أو يصرخ، بين أن يرضى أو يقاوم، بين أن ينحني أو يمضي واقفًا. وهنا يكمن جوهر الثورة الحسينية: إنها لا تورثنا الكراهية، بل تورثنا الوضوح. ولذلك، فإن محرم ليس شهرًا للحزن فقط، إنما شهر يطالبنا أن نستنهض إصرارنا ونتساءل إن كانت إرادتنا تقف ضد الظلم والفساد، ليس في العراق فقط، إنما في كل مكان.
شهر محرم لا يأتي بعاشوراء كحدث يُستعاد، بل كنبض يُوقظ. هو ميزان، أو امتحان للضمير واختبار للروح: أين نقف؟ وكيف نقف حين ينهار كل شيء، وماذا نفعل حين يُخيّرنا الزمن بين الصمت والكرامة؟