100%
ريا محمود
بينما تزدحم الشهور الميلادية بالمناسبات المدنية والوظيفية، يظل التقويم الهجري يسير بخط خافت في ذاكرة العراقيين، لا يعلنه إلا صوت مدفع الإفطار، أو راية سوداء تُعلّق على باب حسينية. ومع حلول اليوم الأول من محرّم، يطوي المسلمون عامًا هجريًا، ويفتحون صفحة جديدة من تقويم يربط الزمن بالإيمان، والهلال باليقين.
في عام 1447 هـ، الذي يبدأ في نهاية حزيران 2025، تدخل بغداد عامًا هجريًا جديدًا، لا يُستقبل بالزينة، ولا يُدوَّن على لافتات المحال، لكنه حاضر بعمق في طقوس الناس ومفرداتهم ومواسمهم الدينية. فالهجرة النبوية ليست مجرد حدث تاريخي، بل لحظة فاصلة تمثل انتقال الإسلام من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة التنظيم.
زمن القمر
يتميّز التقويم الهجري بكونه قمريًا، أي أن الشهور تعتمد على رؤية الهلال، لا على الحسابات الفلكية فقط. لهذا السبب، تتأرجح مواعيده بين البلدان، ويظل مرهونًا برؤية العين المجردة، وبشهادة الأهلّة. في بغداد، ظل الفلكيّون وأئمة المساجد على مدار العقود يتحرّون الهلال من على سطح (جامع الخلفاء) أو عند (مقام الكاظمين)، في مشهد يمزج بين العلم والشهادة.
لكن، وبرغم التقدم التقني، لا تزال لحظة إعلان بداية الشهر الهجري لحظة مشوبة بالتوق، والتساؤل، والاتصال بالأقارب: "ثبت الهلال لو بعد؟"
مواسم العبادات
السنة الهجرية ليست مجرد أرقام. فهي التي تُحدّد مواسم العبادات الكبرى: رمضان، والحج، وعاشوراء، والمولد النبوي، والغدير. وكل شهر فيها يحمل إيقاعًا روحيًا خاصًا. ففي بغداد، مثلًا، يُعرف أن (رجب للزيارة، وشعبان للمواليد، ومحرّم للحزن، وذي الحجة للحج والعيد).
وعلى الرغم من أن التقويم الميلادي هو المعتمد في الدوائر الرسمية والمدنية، إلا أن الموروث الشعبي لا يزال مرتبطًا تمامًا بالتقويم الهجري، وخاصة في المدن ذات الامتداد الديني مثل الكاظمية، وسامراء، والنجف، وكربلاء. في هذه الأماكن، يُقال: "بعدنا برجب"، أو "جاينا عاشوراء"، لا "آذار" أو "تشرين".
مخيال جمعي
يرتبط التقويم الهجري في المخيال الجمعي للعراقيين، وخاصة في بغداد، بالهوية الدينية والثقافية. ففي حين يُعد التقويم الميلادي تقويمًا وظيفيًا، يرتبط الهجري بالشعائر والانتماء والتعبير عن الذات. كما أن توقيتاته تُشكّل خلفية لكثير من الأمثال الشعبية والقصص المتداولة: عن (صيام الأيام البيض)، أو عن (خميس الزيارة)، أو (ليلة القدر)، أو (صفر ومحرّم).
وحتى الروزنامات التي توزّع مجانًا كل سنة على أبواب المساجد أو في الأسواق الشعبية، غالبًا ما تحتفظ بترتيب هجري–ميلادي مزدوج، تُقرأ فيه الأيام لا كتواريخ فقط، بل كعلامات للعبادة، والدعاء، والصيام، والذكرى.
ورغم أن السنة الهجرية تمر غالبًا دون احتفالات أو مظاهر فرح، إلا أن ذاكرة المدينة تحتفظ بإيقاعها. في البيوت القديمة، كانت الجَدّات يرددن (دعاء أول السنة) مع غروب آخر أيام ذي الحجة، ويقطعن حبة تمر، ويتبرّكن بالسنة الجديدة. وفي بعض المحال البغدادية، كانت تُكتب على الجدران: "كل سنة وأنتم بخير… اليوم أول محرّم".
طقوس المحرم
تحتل العشرة الأُولى من محرّم مكانة خاصة في وجدان العراقيين، حيث تتجسد فيها مشاعر الحزن والوفاء بذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته، إذ تتشابك في هذه الطقوس أبعاد دينية وروحية وتاريخية عميقة.
ولا تخلو بغداد من تاريخ طويل في إحياء مآتم عاشوراء، فقد شهدت المدينة منذ القرن الرابع الهجري – وتحديدًا في عهد ملوك بني بويه – أول ظهور واضح للمآتم الحسينية في الأسواق والشوارع، بعد أن كانت النياحة مقصورة على البيوت والمجالس الخاصة. وكان معز الدولة الديلمي هو الذي أصدر الأوامر بإغلاق الأسواق وتعطيل الدكاكين في يوم عاشوراء، مع إقامة المآتم والنوح على الإمام الحسين، ما يشير إلى تحول الاحتفال إلى ظاهرة عامة وعلنية في بغداد.
وقد كان لبغداد خلال العصور العباسية، وما بعدها، دور رائد في تعميق الشعائر الحسينية، رغم بعض محاولات المنع التي فرضها بعض الحكام من حين لآخر، التي لم تستمر طويلًا بسبب قوة التشيع وتأثيره في المجتمع البغدادي.
على الأرض، تبدأ مراسم العشرة الأولى من محرم في بغداد بخطوات متأنية، حيث تتحول الأحياء إلى فضاءات مفعمة بالحزن والسكينة، وتُفتح مجالس العزاء التي تحوي التلاوات القرآنية، والمراثي التي تنقل قصة الطف بمرارة وشجن.
من أبرز ملامح هذه الطقوس في بغداد هو إحياء (التشابيه)، التي تمثل مسرحيات تاريخية صامتة أو ناطقة تجسد وقائع كربلاء، حيث يقوم الشباب بدور الأبطال والخصوم، وتنتقل هذه العروض بين البيوت والحسينيات، لتكرس المشاركة المجتمعية في إعادة سرد الحكاية.
بوصلة روحية
تنشط المواكب العزائية بدءًا من الليالي الأوليات، إلا أن ذروتها تكون في ليلة العاشر من محرم، حين يخرج الآلاف من حاملي الرايات السود، ويرتلون المآتم والأناشيد، مع تقديم الأطعمة، التي تُعدّ نذرًا وشكرًا، من البيوت البغدادية. وتتنوع هذه الأطعمة بين الكليجة، والهريس، والتمن والقيمة، وغيرها من الأطباق التي تتوزع على المشاركين في المواكب. يصاحب ذلك عزف القصائد والنواح، إذ لا تكتمل مراسم العزاء إلا بصدى صوت النائحين والنواحات الذين يضفون على الحزن عمقًا روحانيًا.
أما يوم العاشر نفسه، فيتميز بالصمت والوقار، إذ تُغلق الأسواق، ويُحترم الحداد العام، فتعم السكينة الأرجاء، وينقطع صخب المواكب، تعبيرًا عن استذكار المصاب العظيم، ووقوفًا مع مشاعر الأسى. لا تُختصر مراسم بغداد في هذا اليوم على مجرد الحزن، بل هي احتفال بالثبات على المبادئ والقيم التي جسدها الإمام الحسين، وتأكيد على الولاء والتمسك بالحق والعدالة، ما يجعل العشرة من محرّم في بغداد تجربة فريدة تجمع بين التاريخ، والثقافة، والروحانيات.
في بغداد، قد لا يُعلَّق التقويم الهجري على الجدران، لكنّه محفور في اللاوعي، يقود خطوات الناس من محرّم إلى رمضان، ومن عرفة إلى عيد الغدير. هو ليس فقط تقويمًا، بل بوصلة روحية، تربط الأرض بالسماء، والزمن بالمعنى.
وعندما يدخل العام 1447 للهجرة، تدخل بغداد عامًا جديدًا لا تحسبه بالتواريخ، بل بالأدعية، والمجالس، والزيارات، والحنين… وبتلك الجملة التي لا تزال تُقال حتى الآن:
"كل سنة وهلالك علينا مبارك. "