100%
المغرب/ عبد الرزاق علي
في زمن تتسارع فيه الإيقاعات، وتُختزل فيه المعاني داخل صور عابرة، وأزمنة رقمية بلا جذور، يعود الشعر ليقف على المسرح الكبير للعالم، لا بوصفه ترفًا لغويًا أو ممارسة نخبوية، بل باعتباره ضرورة إنسانية ووسيلة مقاومة ناعمة ضد تسطيح الوعي وانكماش الخيال.
هذه الروح حضرت بقوة في مهرجان كازابلانكا الدولي للشعر، الذي احتضنته مؤخراً العاصمة الاقتصادية للمغرب، ليصوغ قصيدًة كونيًة تلتقي فيها الأصوات واللغات والثقافات، وتعلن أن الشعر لا يزال حيًا ومهمًا، بل وربما أشد حضورًا في عصر الاستهلاك العابر.
قلب العاصفة
من هيمنة الصورة الرقمية إلى تفكك الأنماط التقليدية في القراءة، يجد الشعر نفسه في قلب العاصفة. لكنه، كما يقول الشاعر العراقي شعلان شريف، خلال مشاركته في المهرجان، "ما زال يمتلك قدرة نادرة على خلق المعنى، وعلى إعادة بناء الجسور بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والآخر، وبين المجتمعات وثقافاتها." فالشعر، في جوهره، ليس فنًا جماليًا وحسب، بل فعل وعي ومساءلة، ومساحة لإنتاج قيم بديلة في وجه التفاهة والانحدار اللغوي.
تميز مهرجان كازابلانكا الدولي للشعر بزخم كبير من حيث المشاركات والأنشطة، حيث استضاف شعراء ومترجمين ونقادًا من أربع قارات، وأقام قراءات وجلسات فكرية بلغات عدة: العربية، والفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية، والدارجة المغربية.
وكانت الفعالية، بحسب مديرها عبد الرحمن شكيب، أكثر من مجرد مهرجان؛ إنها "محاولة لاستعادة جوهر الشعر بوصفه فضاءً للعمق والمساءلة الجمالية، ومجالًا حرًا للتعبير عن القيم الإنسانية بعيدًا عن استهلاك المعنى وسطحية المشهد الثقافي المعولم."
حوار الذات والآخر
في حديثه لمجلة "الشبكة العراقية"، رأى الكاتب والمترجم العراقي محسن بني سعيد أن "الكتابة حوار مفتوح مع الذات ومع الآخر، وأن الترجمة، بوصفها أداة عبور بين العوالم، تسهم في إقامة هذا الحوار الحضاري." وأكد أن "مهرجان كازابلانكا يشكّل عيّنة حيّة لما يمكن أن تكون عليه الثقافة حين تنفتح على التعدد دون أن تفقد جذورها."
من جانبها، عبّرت الشاعرة المغربية حفيظة الفارسي عن قناعتها بأن الشعر "لا يزال قادراً على أن يكون صوت الإنسان الداخلي، وسبيلًا لمقاومة عبثية العالم." وأضافت أن "العلاقة بين الشعر والمجتمع، إذا أُعيد وصلها، يمكن أن تُسهم في تغيير الوعي بالوجود وفي إعادة تشكيل نظرة الناس إلى حياتهم، خارج الإيقاع السريع وضغوط الحياة اليومية."
أما الشاعر محمد الأمين، فاعتبر أن المهرجان "فرصة لاستكشاف إمكانات اللغة الجديدة، واستعادة العمق الجمالي وحساسيته، والقدرة اللامحدودة على خلق المساحة الإنسانية." مشددًا على أن "الشعر لا يزال جسرًا أساسيًا لنقل التجربة الإنسانية بين الشعوب، وأداة فعالة لمقاومة العزلة الثقافية."
حب ومقاومة
في ختام الفعاليات، كانت كلمات الشاعرة فدوى الزياني بمثابة خلاصة للروح التي سكنت مهرجان كازابلانكا، إذ قالت إن "الحاجة إلى الشعر لا تقل عن الحاجة إلى التنفس، خصوصًا في أزمنةٍ تغزوها اللغة المعلبة والمعاني السطحية." وأضافت: "الشعر فعل من أفعال الحب والمعرفة والمقاومة، وهو فتح نوافذ الحلم والدهشة، وتمرين على التخييل خارج قوالب الصورة النمطية."
هكذا أعاد مهرجان كازابلانكا الدولي للشعر التأكيد على أن الكلمة لا تزال تملك وهجها، وأن القصيدة يمكن أن تكون سلاحًا معرفيًا وجماليًا في وجه الركود الروحي، وجسرًا دائم الامتداد نحو الآخر، مهما تباعدت الجغرافيا واختلفت اللغة. لقد أكد المهرجان أن الشعر ليس في الهامش، بل في القلب، وأنه لا يزال قادرًا على إعادة صياغة رؤى العالم.