100%
مهدي طالب
في نهايات القرن السابع عشر، حين وقف (جيمس واط) إلى جانب آلته البخارية، لم يكن يعرف أنه يُشعل نارًا ستحرق شكل العالم القديم. آلة صغيرة، تصدر صوتًا وتدور، لكنها كانت أكبر من معدن وصوت؛ كانت بداية نمط جديد من الحياة، نمط جعل من الإنسان تابعًا للمصنع بعد أن كان تابعًا للطبيعة. غيّرت الآلة شكل المدن، وساعات النوم، وثياب الناس، حتى إيقاع الحب والموت، محرك جيمس واط البخاري لم يكن فقط اختراعًا، بل بداية لطريقة جديدة لرؤية العالم والعمل والزمن.
اليوم، وبعد أكثر من قرنين، لا يصدر الذكاء الاصطناعي صوتًا، ولا يدور في مداخن، لكنه يُحدث في صمتٍ ما هو أعظم: (إنه يعيد رسم حدود الإنسان نفسه).
مثلما حرّرت الثورة الصناعية الإنسان من عبء الجسد، فإن ثورة الذكاء الاصطناعي تحرّره اليوم من عبء العقل، أو على الأقل من الوظائف العقلية الرتيبة. إن ما فعلته الماكنة في المصانع سابقًا، تفعله الخوارزميات الآن في المكاتب، وفي الجامعات، وفي غرف التحرير، وحتى في مشاغل الشعر والرسم والموسيقى والسينما.
فرصة أم تهديد؟
نحن الآن أمام آلة تصنع الأفكار، وتشتغل بالبيانات، وتحل محل العقول، وتسرع الإدراك والإبداع. الإنسان اليوم مطالب بأن يُعيد تعريف نفسه.
في تجربة قمت بها، طلبت من الذكاء الاصطناعي تأليف قصيدة نثر على غرار ما يكتبه الشاعر غارسيا لوركا، ونشرتها على صفحتي الخاصة بالفيسبوك، فعلق أحد الأصدقاء على ذلك :
"ماذا يبقى للشاعر إن كتب الشعرَ برنامج؟ ما حاجة الرسام إذا رسم الذكاء الاصطناعي لوحات خلابة؟ وما حاجة المحامي، والطبيب، والصحفي، والمدرّس، إذا تولت الخوارزميات العمل كله؟"
لكن السؤال الأهم الآن: هل الذكاء الاصطناعي فرصة.. أم تهديد؟
اعتبر بعض فلاسفة القرن 19 أن الآلة تسحق الروح، وهناك اليوم من يخشى أن الذكاء الاصطناعي يسحق المعنى.
يركز لارسون في كتابه (أسطورة الذكاء الاصطناعي) على تفكيك الأساطير المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، مشيرًا إلى أن التقدم في هذا المجال يتطلب فهمًا أعمق للذكاء البشري، وتقديرًا أكبر لقدراتنا العقلية. كما يُحذر من أن التوقعات المبالغ فيها قد تؤدي إلى إهمال البحث في الأسئلة الأساسية حول طبيعة الذكاء وكيفية محاكاته.
مركب جديد
من وجهة نظري الشخصية، أقول عكس ما يقوله لارسون، نعم، الذكاء الاصطناعي سيتجاوز البشر في عدد متزايد من المهام، وبعضها سيبدو ذكيًا بدرجة مذهلة، لكن هل سيكون هذا الذكاء واعيًا أو قادرًا على الإبداع الذاتي والنية؟ لكن الإجابة الحقيقية لا تكمن في المنافسة، بل في التحوّل.
إنسان ثورة الذكاء الاصطناعي لن يكون مجرد بديل، بل (مُركِّب جديد)، إنسان يعمل مع الذكاء الاصطناعي لا ضده، وهنالك أربعة تحولات كبرى تحدث الآن:
1 - تحول في مفهوم المعرفة..
إذ لم تعد المعرفة هي ما تعرفه بل (كيف تسأل) وتستخلص وتوجّه.
2 - تحول في مفهوم الإبداع..
لم تعد العبقرية من يصنع من لا شيء، بل من يوظف كل شيء بطريقة جديدة.
3 - تحول في مفهوم العمل..
أصبح العمل أقرب إلى تنسيق الأوركسترا بدلًا من العزف الفردي.
4 - تحول في مفهوم الهوية..
مع برامج تكتب وتنطق وتحلل وتبتكر.
السؤال الآن:
معرفة هائلة
هل الذكاء الاصطناعي هو البخار الجديد؟
الجواب: نعم، بل هو بخار لا يُرى، لكنه يحرّك أعظم السفن، السفن التي نُبحر بها داخل العقل، والخيال، والقرار، والسيطرة..
لكن، كما أنتج البخار مصانعَ ضخمة، وطبقة عاملة مسحوقة، ونظامًا رأسماليًا جامحًا..
فإن الذكاء الاصطناعي قد يُنتج معرفة هائلة، لكن أيضًا بطالة معرفية، وأدوات مدهشة، وسيطرة على الوعي والمشاعر.
ويأتي السؤال: أمام كل هذا، ما العمل إذن؟
مثلما احتاجت الثورة الصناعية إلى قوانين، وعمال، ونقابات، ومفكرين، فإن ثورة الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى:
أخلاق جديدة، وقوانين جديدة، وفنانين ومفكرين قادرين على فهم الأداة دون الخضوع لها.. ليست المشكلة أن الآلة (تفكر)، بل إن الإنسان قد يتوقف عن التفكير لأنه يظن أن الآلة ستفعل ذلك عنه. أمام كل ما ذكرنا، هنالك من يطرح سؤالاً: هل هناك أمل؟
ثورة الذكاء الاصطناعي تحمل بين طياتها وعدًا عظيمًا: أن يعود الإنسان إلى جوهره الإبداعي، أن يستعين بالأدوات، لا ليُستَبدل، بل ليُوسَّع..
الذكاء الاصطناعي مثل الضوء، يمكن أن يُنير لوحة أو يُحرقها، والمسألة -كما كانت دومًا- في اليد التي تمسك بالمصباح.