أحمد عبد ر به /
في وقتٍ تتقاطع فيه التحديات الاقتصادية مع ضغوط الامتثال الدولي، انعقدت في بغداد، مؤخرًا، الدورة الثانية من مؤتمر مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وسط حضور واسع من ممثلي المؤسسات المصرفية العراقية والعربية والدولية، وعلى وقع نقاشات متشعبة تتعلق بمكانة العراق في النظام المالي العالمي. المؤتمر ناقش، على مدار يومين، محاور تمسّ صميم التحديات البنيوية التي يواجهها القطاع المصرفي في العراق، من فتح الحسابات الخارجية إلى دمج الذكاء الاصطناعي في الرقابة، مرورًا بمشكلة الصورة النمطية التي تلاحق المصارف العراقية في المحافل الدولية. واجمع الحاضرون على أن العراق يقف أمام لحظة دقيقة في مسيرته الاقتصادية، إما أن يتحول الامتثال إلى مدخل فعلي لبناء نظام مالي مستقل وموثوق، أو يبقى مجرد واجهة أمامية لواقع هش واقتصاد مشوّه. نظام أمثل محافظ البنك المركزي العراقي، علي العلاق، وصف في كلمته خلال المؤتمر، الذي حضرته "الشبكة العراقية"، نظام التوزيع النقدي للدولار في العراق بأنه "الأمثل بين دول العالم"، وهو توصيف قال إن الشركاء الدوليين شاركوه فيه. لكن هذا التوصيف، في ظل سياق رقابي دولي مشدّد، لا يعفي المنظومة من مراقبة لصيقة وتقييم دائم. وبرغم ما أعلنه البنك المركزي من التزام بالمعايير الدولية، فإن العراق لا يزال، ضمن ما يُعرف بـ "القائمة الرمادية" لمجموعة العمل المالي الدولية (FATF). ويُعدّ البقاء ضمن هذه القائمة، رغم التقدم الذي أحرزه العراق، بمثابة عبء ثقيل على الثقة المصرفية الدولية، إذ يضع المؤسسات المالية العراقية تحت مراقبة مشددة ويجعل فتح الحسابات مع المصارف المراسلة أمرًا بالغ التعقيد. وأشار العلاق إلى إجراءات جديدة لتعزيز الشفافية في الحوالات الخارجية، وإنشاء سجل دولي يتضمن بيانات حقيقية للمصارف، ما يعكس - حسب قوله - حرص العراق على الحد من إساءة استخدام القنوات المالية. لكنه في الوقت نفسه أقرّ بأن التقييمات الدولية الأخيرة أظهرت نقاط ضعف قيد المعالجة، فيما يشير إلى أن الطريق لا يزال طويلًا، وأن الامتثال المطلوب ليس حالة منجزة، بل عملية مستمرة. تعميم العقوبات من جهته، أشار رئيس رابطة المصارف الخاصة، وديع الحنظل، إلى أن الإجراءات الدولية الأخيرة بحق بعض المصارف العراقية أضرّت بسمعة القطاع ككل، برغم أن "الغالبية ملتزمة بالمعايير الدولية"، بحسب تعبيره. وبالرغم من دخول العراق في مرحلة إصلاحات مصرفية متقدمة، فإن التصنيف الدولي للمصارف العراقية ظل عرضة للانتكاسات، خاصة بعد فرض وزارة الخزانة الأميركية قيودًا على مصارف عراقية وحرمتها من التعامل بالدولار. (الحنظل)تحدث عن خطة إصلاحية يقودها البنك المركزي، بدعم حكومي مباشر، بهدف إعادة بناء ثقة المجتمع الدولي بالقطاع المصرفي العراقي. لكنه لم يغفل التحدي الأساس: الصورة الخارجية المتأثرة بسجل العراق التاريخي وتفاوت مستوى الامتثال بين المصارف. معايير دولية تشير أحدث بيانات البنك المركزي العراقي إلى وجود أكثر من 70 مصرفًا عاملًا في البلاد، منها 7 مصارف حكومية، بينما تتوزع البقية بين مصارف خاصة محلية وأجنبية. وبرغم هذا العدد، فإن نسبة الاندماج المصرفي في الحياة الاقتصادية ما تزال دون الطموح. الأمين العام لاتحاد المصارف العربية، وسام فتوح، شدد في كلمته على أن الامتثال بات أحد المؤشرات الأساسية لقياس مصداقية الدول، لكنه أشار في الوقت نفسه إلى أن التطبيق الصارم وغير المرن من قبل الجهات الدولية يضع الدول ذات السياقات المعقدة، كالعراق، في موقف حرج. وفي موقف لافت، وصف فتوح معركة الامتثال بأنها ليست مجرد مسألة فنية، بل قضية "سيادية واقتصادية"، مؤكدًا أن تقييد علاقات المصارف العراقية بالمراسلين الأجانب يؤثر سلبًا على الاستثمار والتجارة ويضرب العمق المالي للدولة. وتعد العلاقة مع المصارف المراسلة الأجنبية بمثابة العمود الفقري لأي نظام مصرفي يسعى إلى الاندماج في الاقتصاد العالمي، لما تتيحه من قنوات للتحويلات الخارجية، وفتح الاعتمادات المستندية، وتسهيل العمليات التجارية العابرة للحدود. وفي الحالة العراقية، تعاني هذه العلاقة من تآكل تدريجي وثغرات خطيرة منذ سنوات، تفاقمت بعد عام 2022، حين بدأت الولايات المتحدة بتكثيف رقابتها على الدولار الداخل إلى العراق. الى ذلك، أكد مستشار رئيس الوزراء، د. صالح ماهود، في كلمته أن الحكومة اتخذت "إجراءات تتماشى مع المعايير الدولية" لمكافحة غسل الأموال. لكنه ألمح إلى أن بناء ثقة مستدامة لا يتم عبر إجراءات موسمية، بل يحتاج إلى ستراتيجية شاملة تعالج أصل المشكلة: ضعف المنظومة الرقابية والتشريعية من جذورها.