محمد عبد الجبار الشبوط /
في زحمة الخطابات المتصارعة بين الدين والعلم، وبين الأصالة والحداثة، قلّما نجد مفهومًا قادرًا على بناء جسر حيوي بين هذه العوالم المتباعدة كما تفعل (الفطرة الإنسانية). فالفطرة ليست مجرد مصطلح ديني جامد، ولا هي نظرية نفسية محضة، بل هي نقطة التقاء بين الميراث البيولوجي والنداء الأخلاقي، بين صيرورة التطور وجوهر الإنسان. وهي، في هذا السياق، تصلح أن تكون محورًا لمنظور حضاري معاصر يعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان ومصيره. من منظور علم النفس التطوري والأنثروبولوجيا، لا يأتي الإنسان إلى العالم صفحة بيضاء، بل محمّلًا بميراث ضخم من الاستعدادات الفطرية التي تكونت عبر مئات الآلاف من السنين. هذه (الفطرة) ليست قالبًا مفروضًا، بل هي نظام داخلي مرن، يتضمن الميل إلى: العدل والتعاطف والتعاون. اللغة والرمزية. البحث عن المعنى والغائية. لقد صقلت هذه الاستعدادات في (مختبر الحياة)، حيث لم يكن البقاء للأقوى، بل للأكثر وعيًا بالآخر، والأقدر على بناء روابط الثقة والتكافل. وحين يشير القرآن إلى أن الله فطر الناس على التوحيد، أو أن (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله)، فإن هذا لا يتناقض مع ما يقوله العلم، بل يضفي عليه أفقًا روحانيًا، يجعل من الفطرة بوصلة داخلية مشتركة بين البشر، لا مجرد بقايا تطور أعمى. إذا فهمنا الفطرة على أنها عصارة تطور بيولوجي- نفسي من جهة، ومصدر أخلاقي مشترك من جهة أخرى، فإنها تصلح لأن تكون نقطة الارتكاز لأي مشروع حضاري إنساني معاصر. وذلك لعدة أسباب: إنسانية الفطرة: الفطرة ليست خاصة بأمة دون أخرى، أو بعقيدة دون غيرها. إنها (الهوية البشرية العميقة)، ما يجعلها أساسًا للتعايش والتفاهم. قابلية الفطرة للتنمية: الفطرة لا تلغي التربية أو الثقافة، بل تُفعّلهما. فكل مشروع حضاري ناجح لا يبني على العنف أو الإكراه، بل يستنهض الفطرة، وينمّيها بالعلم والعمل. استدعاء الفطرة في أزمنة الأزمة: حين تنكسر المنظومات الكبرى، كما في عالم اليوم، تبقى الفطرة ملاذًا أخيرًا للمعنى. إنها تذكّر الإنسان بأنه ليس مجرد مستهلك أو رقم في السوق، بل كائن حرّ، أخلاقي، قادر على التجدد. في عالم يتخبط بين الفردانية المتطرفة والتقليد الأعمى، تبرز الحاجة إلى مفهوم يجمع بين الأصالة العلمية، والرسالة الأخلاقية، والبعد الإنساني. وهنا يأتي دور الفطرة، لا كمفهوم عقائدي مغلق، بل كـ (نقطة ارتكاز معرفية وروحية)، تعيد تعريف الإنسان بوصفه مشروعًا مستمرًا للتطور والسمو. الفطرة، إذن، ليست موروثًا فحسب، بل دعوة للاستكمال، وهي في الوقت ذاته الأساس الصامت لكل مشروع حضاري يؤمن بالإنسان وكرامته وقدرته على البناء.