100%
ميسان /عبد الحسين بريسم
لم تتبقَ من بيوت الشناشيل في مدينة العمارة سوى أطلال تروي حكاية مدينة أكلها الإهمال والزمن. فقد اندثرت معظم هذه البيوت التي كانت تميز مركز المدينة، ولم يبق منها إلا بعض النماذج المتناثرة في أحياء المدينة القديمة، مثل (السرية)، و(السراي)، و(المحمودية)، و(القادرية)، إضافة إلى شارع التربية (المعروف سابقاً في شارع المعارف، والسوق المسقوف، الذي يُعد الشاخص الوحيد الذي احتفظ بشيء من طابعه المعماري الأصيل.
تاريخ الشناشيل
يعود تأسيس مدينة العمارة الحديثة إلى عام 1861م، على يد عبد القادر الكولمندي، وهو ما وثّقه الشاعر العراقي المعروف عبد الغفار الأخرس في أبياته الشهيرة التي أرسلها إلى حاكم المدينة آنذاك:
"عمرتموها فغدت عمارة
كما أردتم لمراد الخاطر
فقل لمن يسأل عن تاريخها
قد عمّرت أيام عبد القادر"
ومع هذا التأسيس، بدأت بيوت الشناشيل تنتشر في العمارة، مشكلة طرازًا عمرانيًا فريدًا يمثل مرحلة حضرية في تطور المدينة. ومن بين البيوت المتبقية اليوم، هناك بعض الشناشيل القليلة في مناطق السراي، والسرية، والمحمودية، والقادرية، إلا أن عددها لا يتجاوز أصابع اليد.
وسط هذه الحالة، تتعالى الدعوات إلى الجهات المعنية بضرورة التحرك السريع لإنقاذ هذه الأبنية من مصير مشابه لما حدث لمعبد التوراة وعدد من المعالم الأخرى التي طواها النسيان.
الكاتب جمعة كريم المالكي من (مؤسسة الهدى للدراسات الستراتيجية) يرى أن الحديث عن تراث العمارة بات مشبعًا بالحزن والأسى، مؤكدًا أن "البيوت القديمة التي كانت تضم ساحات داخلية تطل عليها الغرف، وأسطحًا خشبية محاطة بسياج مزخرف، أصبحت إما مهدّمة أو تحولت إلى مخازن ومجمعات تجارية."
ويضيف: "أجمل ما في هذه البيوت هي الشناشيل، التي كانت تعكس ذوقًا عمرانيًا نادرًا يعبر عن هوية المدينة وجمالها."
جماليات الحنين
من جهته، يقول الإعلامي مهدي الساعدي إن ما تبقى من هذه البيوت "لم يعد أكثر من بقايا مهترئة وآيلة للسقوط." مشيرًا إلى أن "غياب الرؤية الحكومية والرعاية الحقيقية، ترك تلك الأبنية في مهب الريح."
ويدعو الساعدي إلى أن تتبنى الدولة عملية ترميم هذه البيوت وإعادة الحياة لها عبر شرائها من أصحابها وإسناد ترميمها إلى شركات متخصصة.
أما الشاعر والإعلامي نصير الشيخ، فيستعيد ذاكرته مع أحد هذه البيوت في محلة القادرية، قائلاً: "الخطى تقودك إلى مدخل الرواق البارد.. الشناشيل، هذه الكيانات الصامتة، تنطق بزمنها، وتزرع في النفس شعورًا بالأمان.. زاوية تلو الأخرى، تختزن الذكريات، وتخبئ الحكايات في ثنايا الخشب المعتق."
الكاتب والصحفي عبد الله كيطان، أحد أبناء بيوت الشناشيل، يروي بلوعة مصيرها:
"كنت أحلم بدخول تلك البيوت الساحرة ذات يوم.. من الخارج تعزف عليها العصافير، ومن الداخل تسكنها الألفة.. لكنها اليوم صارت أكوامًا من التراب والنفايات. لقد شاركنا جميعًا، للأسف، في حفل إعدامها الجماعي."
رؤية شاملة
الدكتور محمد كريم الساعدي، الأستاذ في جامعة ميسان، يقدم رؤية شاملة لإنقاذ ما تبقى من إرث الشناشيل في المدينة، موضحاً أن العمارة مدينة ذات بعد حضاري مرّت بمراحل عمرانية متعددة، خاصة في أواخر العهد العثماني ومع بدايات الحكم الملكي في العراق.
ويضيف: "مناطق مثل السراي، والسرية، والمحمودية، والصابونجية، والتوراة، كانت تضم بيوتًا بطراز الشناشيل، امتازت بالشرفات الخشبية والأبواب الكبيرة والتفاصيل الزخرفية."
ولإنقاذ ما تبقى، يقترح الدكتور الساعدي الخطوات التالية:
(تشكيل لجنة لحصر البيوت المتبقية، تقييم الأضرار في كل بناء، اعتماد آلية ترميم تحفظ الهوية الأصلية من قبل مختصين، إشراف وزارة السياحة والآثار على المشروع.)
ويختم قائلًا إن "تنفيذ هذه الخطوات سوف يسهم في إعادة الهوية المحلية إلى مكانها الطبيعي بعد أن شوهتها تحولات البناء العشوائية."