100%
خالد قاسم
تصوير / حسين طالب
بعد عقود من الغياب القسري عن المحافل العلمية الدولية، يخطو العراق خطوات مفصلية نحو استعادة مكانته الأكاديمية العالمية، بإعلانه أول مشاركة رسمية في أولمبياد الكيمياء الدولي (IChOIChO)، واحد من أرفع المسابقات العلمية لطلبة المدارس الثانوية على مستوى العالم. المشاركة جاءت ثمرة لجهود علمية ودبلوماسية متواصلة قادتها نقابة الكيميائيين العراقيين، تكللت باستثناء نادر من القيود الدولية، لتُفتح أمام العراق أبواب المنافسة العالمية في واحدة من أعرق المسابقات التي تضم أكثر من 116 دولة.
العلم بوابة العبور
منذ انطلاقه عام 1968 في العاصمة التشيكية براغ، أصبح أولمبياد الكيمياء الدولي منصة عالمية لتكريم العقول الشابة النابغة في هذا الحقل العلمي الحيوي. ومع دخول العراق هذه الساحة للمرة الأولى، يتجدد الأمل في أن تستعيد البلاد دورها كحاضنة للمعرفة والابتكار.
جاءت هذه المشاركة بعد أن تمكنت رغداء حسن الدجيلي، نقيبة الكيميائيين العراقيين والخبيرة الاستشارية في علوم الكيمياء، من اجتياز سلسلة من المراسلات الفنية والدبلوماسية، قادت إلى موافقة استثنائية من اللجنة المنظمة للأولمبياد، أسقطت شرط الانتظار الإلزامي للدول الجديدة، الذي يمتد عادة إلى عامين من المشاركة بصفة مراقب.
بداية المسار جاءت في أواخر عام 2023، حين نظم العراق لأول مرة الأولمبياد العربي التاسع للكيمياء، محققًا ميدالية فضية مشرّفة، الأمر الذي لاقى استحسانًا واسعًا في الأوساط العلمية العربية والدولية. هذا النجاح شكل منصة انطلاق لتقديم ملف العراق إلى (مؤسسة موهبة للتميّز والإبداع) في المملكة العربية السعودية، بالتنسيق مع السفارة العراقية في الرياض.
وبعد عرض علمي متكامل قدمته الدجيلي، دُعي العراق للخضوع إلى اختبارين دوليين أمام لجنتين من الخبراء: لجنة عليا تمثل 11 دولة، ولجنة محلّفين موسعة تضم 96 دولة عضوة. وقد أثمرت الخطة التي تضمنت اختبار 1380 طالبًا من مدارس الموهوبين والمتميزين في العراق، عن انتزاع إعجاب وتقدير اللجنة، خصوصًا بعد التزام العراق بمعايير الاختيار العلمي الدقيقة والتدريب الأكاديمي المكثف.
عرض علمي
في أولمبياد 2024 الذي أقيم في المملكة العربية السعودية، شارك الوفد العراقي بصفة مراقب، لكنه كان نجم الفعالية دون منازع. ففي عرضه التقديمي أمام لجنة التحكيم الدولية، افتتح الوفد كلمته بمقولة العالم العربي جابر بن حيان: "الكيمياء علم يمنح الأشياء منطقاً." ولم يكن اختيار العبارة عبثيًا، بل جاء ليؤكد عمق الجذور العلمية للحضارة العراقية، التي أنجبت أيضًا أول عالمة كيمياء في التاريخ، تابوتي البابلية، مخترعة العطور وصاحبة أول معمل كيميائي موثق.
نال العرض إشادة غير مسبوقة، وتُوّج التصويت بمنح العراق المرتبة الأولى بنسبة 78 % من أصوات الدول المشاركة، متقدمًا على كل من الأردن والمغرب، ليُمنح حق المشاركة الرسمية الكاملة، والمساهمة في اللجنة العلمية، إلى جانب حضور مستمر كمراقب في دورات قادمة.
اختبارات وطنية
تحت إشراف اللجنة العلمية الاستشارية لنقابة الكيميائيين العراقيين، وبالتعاون مع وزارة التربية، أُطلقت سلسلة اختبارات لاختيار الفريق الوطني المؤهل، بحسبما أوضح الاستشاري علي شهيد هادي، أمين سر النقابة ومقرر اللجنة.
استهدفت المرحلة الأولى طلبة المرحلة الإعدادية من جميع المحافظات، بما فيها مدارس إقليم كردستان، وجرى تنفيذ الاختبارات في عطلات نهاية الأسبوع، بأسلوب إلكتروني لضمان الشفافية، ووفق منهج عالمي موحد تحدده اللجنة العليا للأولمبياد.
وفي مرحلة لاحقة، تلقى 200 طالب محاضرات مكثفة على يد أساتذة من جامعات بغداد والمستنصرية والنهرين، قبل أن تجري تصفيتهم إلى ثمانية طلاب، خاضوا اختبارًا نهائيًا لاختيار أربعة أساسيين وأربعة احتياط، سيمثلون العراق رسميًا.
وبرغم النجاح الكبير، لم تخلُ هذه الرحلة من تحديات صعبة، حسبما أفادت د. إيناس محجن، رئيسة اللجنة العلمية في النقابة، التي أوضحت أن تقارب المستويات العلمية بين الطلبة شكل أبرز العقبات، إضافة إلى صعوبة تنقل الفرق العلمية بين المحافظات، وتعقيدات التنسيق مع المدارس، وافتقار بعض الجامعات إلى الوقت الكافي بسبب تزامن الاختبارات مع السنة الدراسية. كما أن طبيعة المادة العلمية، التي تُدرّس عادة على مستوى الدراسات العليا، كانت تمثل تحديًا مضاعفًا لطلبة في المرحلة الإعدادية، غير أن حماستهم العالية وإصرارهم على التمثيل الدولي كانا المحرك الأول لنجاحهم.