وليد التميمي /
في الثالث عشر من حزيران، يستذكر العراقيون كل عام، بفخر واعتزاز، ذكرى صدور فتوى الجهاد الكفائي، التي أطلقها المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني، داعيًا فيها العراقيين القادرين على حمل السلاح إلى الدفاع عن بلدهم، بعد أن استباحت العصابات الإرهابية الداعشية مناطق واسعة منه. ففي خطبة الجمعة التي ألقاها ممثل المرجعية الدينية في كربلاء، دعت المرجعية العليا المواطنين إلى التطوع للدفاع عن العراق. وما إن أعلنت الفتوى، حتى لبّى ملايين العراقيين نداء الوطن، حاملين السلاح دفاعًا عن العراق، وشعبه، ومقدساته، لتشكل الجموع المليونية من أبناء شعبنا، الذين استجابوا للفتوى، سداً منيعاً لحماية العراق في أكبر ملحمة للصمود والتضحية وتحقيق الانتصار. أهمية الفتوى فتوى الجهاد الكفائي لم تكن فتوى حرب، بل فتوى دفاع، حملت طابعًا وطنيًا بامتياز، كانت لحظة من لحظات الإجماع الشعبي حول مرجعية دينية تسامت فوق الانقسام، وصاغت، بكلمات قليلة، بداية النهاية لأخطر تهديد واجهه العراق منذ عقود. فقد لعبت الفتوى دورًا مهمًا في إطلاق عمليات تحرير الأراضي العراقية التي كانت تحت سيطرة داعش، ما أسهم في استعادة الأمن والاستقرار في البلاد. كما رسخت المرجعية، عبر هذه الفتوى، دورها كحامية للمجتمع والدولة، وأنها ليست مجرد مرجعية روحية فقط، بل مرجعية مسؤولة وواقعية تستجيب للتحديات الوطنية. وكانت الفتوى، أيضًا، تأكيدًا لأهمية الدفاع عن الوطن وحفظ المقدسات، ما عزز الروح الوطنية، وأظهر مدى إيمان العراقيين بوطنهم، عبر استجابة شرائح واسعة من مختلف المحافظات لنداء الفتوى. هذا التحشيد الجماهيري أدى إلى تعزيز الوحدة الوطنية بين مختلف طوائف ومكونات العراق، وأظهر قدرة الشعب على التكاتف في وجه الأزمات، ممثلًا بالزخم البشري المتدفق على مراكز التطوع، الذي رفع المعنويات وبث الرعب في صفوف الإرهابيين، ليتحقق النصر الكبير وإعلان هزيمة داعش في 2017. فتوى الجهاد.. لحظة ولادة الحشد على إثر الفتوى المباركة للمرجع السيد علي السيستاني دام ظله، تشكلت النواة الأولى لما سُمي فيما بعد "الحشد الشعبي"، والذي سماه العراقيون «الحشد الشعبي المقدس». وبعد أيام من الفتوى المباركة كان الحشد الشعبي حاضرًا في الخطوط الأمامية في أخطر معارك العراق، ولم يكن مجرد قوة ساندة، بل سرعان ما تحول إلى عنصر حاسم في المعركة.. لقد أدى الحشد الشعبي دورًا بارزًا في معارك التحرير، وقدم من أجل ذلك تضحيات كبيرة، وخاض معارك شرسة، واستطاع، كتفًا بكتف، مع القوات الأمنية البطلة، المتمثلة بجهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الإتحادية وقوات الجيش العراقي البطل، تطهير أراضي العراق من براثن العصابات الظلامية. وكما كان الحشد عنوانًا للتضحية والفداء، فإنه أسهم في الوقت نفسه في بناء أمة من الشباب، وتعزيز السيادة الوطنية، وتقديم الدعم للمجتمع، ولم يقتصر دوره على الجانب العسكري، بل امتد إلى ما هو أبعد، حيث ساهم في تقديم أفضل الخدمات والدعم للمجتمع، في مجالات مثل التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية. ولعب دورًا مهمًا في جهود إعادة بناء المناطق المتضررة من الحروب والنزاعات، وتقديم الخدمات للمواطنين في هذه المناطق. هذا فضلًا عن دوره الكبير في مشاركة العتبات المقدسة والقوات الأمنية في توفير الأمن للزائرين والخدمات، وتسهيل حركة الزوار أثناء الزيارات المليونية، وإمساك الحدود، وغيرها الكثير. هكذا كان الحشد الشعبي، القوة النظامية التابعة للدولة العراقية، والخاضع لقيادة القائد العام للقوات المسلحة والعمود الفقري للقوات المسلحة العراقية. سبايكر.. فاجعة العصر وفي واحدة من أبشع وأفظع جرائم الإبادة في التاريخ، أعدم تنظيم داعش الإرهابي الإجرامي الظلامي الغادر، أكثر من 1700 طالب من كلية القوة الجوية في قاعدة سبايكر. وكانوا متدربين شبابًا عُزل لم يحملوا سلاحًا، عُصبت أعينهم وربطت أيديهم، وفُتحت عليهم نيران الحقد الاعمى ليعدموا بدم بارد، بعضهم دُفن في مقابر جماعية، فيما أُلقي آخرون في نهر دجلة، في مشهد دموي يحمل رسالة واحدة مفادها ترويع العراق وكسر عنفوان شموخه. ومنذ وقوع جريمة سبايكر، لم تترك الجهات العراقية الرسمية والشعبية المناسبة تمر دون إحياء لذكراها، فقد تنوّعت فعاليات التوثيق والاستذكار، ما بين مهرجانات شعبية ومؤتمرات رسمية، ومعارض دولية تخللتها معارض الصور وعروض الأفلام الوثائقية، ومراسم تكريم، وقُدمت أوراق بحثية توثق الجريمة ضمن (الجرائم ضد الإنسانية) إضافة إلى النصب التذكاري الذي شيد قرب موقع المجزرة. دوليًا، شاركت وفود عراقية في مجلس حقوق الإنسان في جنيف وقدمت تقارير مصورة عن الجريمة. كما عُرضت صور ومقاطع موثقة من سبايكر، ضمن معارض دولية في بروكسل وباريس ولندن، ركزت على توثيق جرائم داعش في العراق. وعلى الرغم من مرور أكثر من عقد على المجزرة، لا تزال سبايكر حاضرة في الوعي الوطني العراقي، كقضية إنسانية تتطلب العدالة والإنصاف. وتبقى ذكراها شاهدًا على حجم الفاجعة، التي تحمل ذكرى مؤلمة للعراقيين، وجرحًا في ضمير الإنسانية. هكذا هي سبايكر، جرح العراق الذي لم يُنس ولن يُنسى، وسيبقى الوفاء لدماء الشهداء الطاهرة التي خالطت مياه دجلة وفاءً للعراق. كلمة أخيرة وحريٌ بنا القول إنه لولا هذه الفتوى المباركة، لانطفأت أنوار العراق، فبفضلها تحقق النصر، واستعدنا الأمن والاستقرار، ومنها بدأت خطواتنا نحو المستقبل الآمن، وفيها أثبتت المرجعية بأنها صمام أمان العراق. ولأنها ليست بيانًا عابرًا في لحظة أزمة، بل وثيقة وطنية ستبقى خالدة في ذاكرة الأمة، نستذكر هنا بعضًا مما جاء في فتوى الجهاد المباركة: (إن طبيعة المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه في الوقت الحاضر تقتضي الدفاع عن هذا الوطن وأهله وأعراض مواطنيه، وهذا الدفاع واجب على المواطنين بالوجوب الكفائي.…، ومن هنا فإن على المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الإرهابيين دفاعًا عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم، عليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية لتحقيق هذا الغرض المقدس).