100%
زياد الرسام
في الزمن الذي أصبحت فيه صور العلماء مخفية خلف ضجيج اللحظة، ينهض اسم أحمد سوسة من جديد، لا من صفحات الكتب فقط، بل من ذاكرة وطن قرر أن يكرم عقله المتقد بمتحف وجائزة يحملان اسمه.
ليس هذا مجرد احتفاء برجل كتب عن الري، أو هندس السدود، بل هو استعادة لوعي كان يرى في الماء تاريخاً، وفي البحث العلمي انتماء، وفي الهوية جسراً لا جداراً.
لم تكن حياة سوسة مجرد مسار أكاديمي صاعد بدأ من مدينة الحلة ومرّ بأميركا، وانتهى في بغداد، بل كانت رحلة وعي عراقية، جسدت الصراع النبيل بين الهوية والانتماء، بين الديني والوطني، وبين التاريخي والعلمي.
حضارة الماء
حين كتب سوسة موسوعته الأشهر (الري في العراق القديم)، لم يكن يدون سيرة الأنهار أو جداول السقي، بل كان يكتب سيرة العراق نفسه، بوصفه حضارة نشأت من الماء، وصاغت ذاتها عبر جدلية النهر والفيضان والتحكم. لم يكتب بوصفه مؤرخاً يروي، بل باحث يفكك، ويعيد تركيب الأسئلة الكبرى. في منهجه، جمع سوسة بين الملاحظة الميدانية، والتحقيق الأثري، والهندسة التطبيقية، ليخرج برؤية نادرة، بأن الري ليس فقط موروثاً زراعياً، بل بنية عقلانية متكاملة أسهمت في إنتاج أولى الدول، وأول مفاهيم السلطة، وبذلك تحولت مسارات المياه عنده إلى مسارات فكرية، تحمل في عمقها أسئلة الهوية السياسية والثقافية.
التحول الديني
سوسة، الذي وُلد لعائلة يهودية عراقية، لم يُعرف فقط بموسوعاته، بل أيضاً بقراره اللافت بالتحول إلى الإسلام في خمسينيات القرن الماضي. هذا القرار لم يكن انفصالاً عن جذور، بقدر ما كان فهماً أعمق لضرورة الانتماء العضوي لوطن تشكله تنوعاته، فقد آمن أن الدين، في السياق العراقي، يجب ألا يكون فاصلاً، بل جسراً.. وهو عبر الجسر، وبقي وفياً للطرفين، لذاكرته الأصلية، ولإيمانه الجديد.
وكتابه (في طريقي إلى الإسلام) ليس عبارة عن شهادة دينية، بل وثيقة فكرية تعبر عن سيرة روح تبحث عن الانسجام الداخلي في وسط مجتمع يتلون سياسياً وطائفياً ودينياً. وهو ما يجعل من سوسة مثالاً نادراً للعراقي الذي لم يختر الهروب، بل اخترق التعقيد بهدوء الباحث ومثابرة العارف.
الوعي المعاصر
سوسة، الذي توفي عام 1982، لم يغب عن الوعي الثقافي، بل يمكن القول إنه عاد بشكل لافت إلى وطنه، إذ افتتح - قبل أيام - في بغداد متحف خاص يحمل اسمه، ويضم إرثه العلمي ومقتنياته الشخصية، بتنظيم مشترك بين الدولة وعائلته، وبالأخص حفيدته سارة الصراف، التي بذلت جهوداً كبيرة من أجل الحفاظ على تراث جدها، وأصرت على تأهيل المتحف وتحويله إلى مركز للدراسات والبحوث.
افتتح المتحف رسمياً رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي وجّه بعقد مؤتمر عن العلّامة أحمد سوسة وإطلاق جائزة باسمه، كما وجّه وزارة التربية بتسيير رحلات للمدارس الابتدائية والمتوسطة لزيارة هذا المتحف، والاطلاع على تاريخ ومنجزات الرموز العراقية التي خدمت البلد.
وهذا لم يكن مجرد تكريم، بل محاولة لإعادة الاعتبار لفكرة أن العالِم يمكن أن يكون بوصلة وطن، وأن إقامة متحف باسم العالِم أحمد سوسة في العراق تمثل خطوة بالغة الأهمية في تكريم العقل العراقي الذي أسهم في كشف أسرار حضارات الرافدين، وربط الماضي العلمي بالحاضر.
فضاء الهوية
هذا المتحف لا يوثق إنجازات رجل واحد فحسب، بل يحتفي بروح البحث والمعرفة التي جسدها سوسة في مسيرته، ويعيد الاعتبار للعلماء بوصفهم رموزاً وطنية حقيقية. كما يُعد المتحف رسالة انفتاح وتسامح، تعكس تنوع المجتمع العراقي وغناه. بهذا المعنى، يتحول المتحف من مجرد صالة عرض إلى فضاء للهوية والذاكرة والوعي. يمثل سوسة نموذج العالِم المواطن، الذي لم ينعزل في مختبراته، ولم يُحاصر نفسه بمصطلحات الاختصاص، بل انفتح على قضايا الناس، وربط بينها وبين التاريخ، وجعل من المعرفة وسيلة للمساءلة والمشاركة.
وفي زمن ترتبك فيه المفاهيم وتهدم الثوابت، تبدو استعادة تجربة أحمد سوسة ضرورية، لا من أجل تمجيد الماضي، بل لفهم الحاضر بأدوات أعمق، فهو لم يكن فقط من رواد علم الري، بل من مهندسي الوعي الوطني العراقي، أولئك الذين آمنوا أن النهر ليس مياهاً جارية فحسب، بل ذاكرة تسري في النفوس، وعلى الجميع أن يعيدوا قراءتها ليفهموا أنفسهم جيداً.