100%
زياد العاني
لم يكن رحيل الشاعر موفق محمد مجرد غياب جسدي لشاعر متميز، بل كان انطفاءً لصوت شعري ظل لعقود يصدح بالوجع العراقي، متحديًا، ساخطًا، وساخرًا. شاعر لم يهادن سلطة، ولم يتكئ على عروش المؤسسات الثقافية، بل ظل يكتب من قلب الشارع، ومن نبض الناس البسطاء، منسجمًا مع وجدانهم، ومعبّرًا عن جراحهم.
كانت قصيدته مشتبكة بالواقع، لا تبحث عن الجماليات المجرّدة بقدر ما تصنع جمالها من صلصال الألم العراقي وسخريته السوداء.
الصوت وحده
شكّل رحيله صدمة في الأوساط الثقافية، أما لدى من كانوا على تواصل مباشر معه ومع نصوصه، فكانت الخسارة أعمق. من هؤلاء القاص الكبير محمد خضير، الذي كتب على صفحته الخاصة متأملًا تجربة الشاعر، قائلًا: "لكتابة عبارة على ضريح موفق محمد، أُحار فيما أختار من حجارته الشعرية، هذه التي ما فتئت مفرداتها تتدحرج إلى وادٍ سحيق، فلا تتيح لإزميل نقّاش فرصة أن يمسك بهديرها المتواصل. أستعير القول الذي كان الناقد علي جواد الطاهر يؤثر به أصفياءه من الأدباء العراقيين: فلان وحده، فأصوغ منه صوتًا لموفق محمد وحده..
خرج صوت موفق محمد من رحم (الكوميديا العراقية) – قصيدته المنشورة على صفحات العدد السادس من مجلة (الكلمة) عام 1972 – باعتبارها المثال الفخم للضريح الذي ابتناه شعراء طليعيون على حافة الهامش السلطوي لثقافة الأعوام السبعينية.
كان صوت موفق محمد، وحده، دالًا على هيئته المختفية في بنية الخطاب الشعري الضرائحي ذاك. كان صوتًا منبريًا محشورًا في زاويته، قبل أن يهشم جدرانه ويصبح صوتًا شعبويًا، ساخطًا ومدمرًا لبنيته الكتومة. ضاق الصوت بحدوده، بحزنه وآلامه وقدرته على التلويح والانتشار الحر، فخرج محتجًا ليلتحق بشعراء الهامش السلطوي الذي شطرته عواصف الساحل الآيديولوجي شطرين متناقضين: شطر القصيدة المنطوية على خطابها الجمالي، وشطر القصيدة المفتوحة على هامشها الاحتجاجي." مضيفاً: "منذئذ – منذ حرب العربان والتربان – انداف الصوت بأوحال الأحذية العسكرية والبذلات الفضفاضة على أجساد الجنود وبصمات الحنّاء على جدران الأضرحة. حتى إذا بلغ الصوت حافة الهامش الأخير، المرافق لسلطة 1991 المندحرة، كان قد اختنق بجوقة الضحايا من الثائرين حوله (ومنهم ابنه المفقود). خاض الصوت حربه وحده أيضًا. لقد اقتضى الهامش الطويل، كأفعى مذعورة، أن تتلون وتترقّط قصائده بمعجم هائل من التوريات والغنائيات الشعبية."
وتذكر(خضير)، لقاءً مباشرًا مع الشاعر في معرض للكتاب: "سمعت موفق محمد يقرأ شعرًا على منصة، خلال معرض مؤسسة المدى للكتاب عام 2007، مستدعيًا نبرة الهامش الانفرادية، رائحًا وغاديًا في حنجرة حجرية، فكانت تلك القراءة تمثيلًا حيًا للصوت المستقل الذي وصفته في مقال عنوانه (الاحتجاج الناعم) نُشر في جريدة المعرض. كان الصوت قد تخلّى تمامًا من حذره القديم، لكنه اكتسى مقابل ذلك ثوبًا فضفاضًا من ملابس الشعيرة الاحتفالية وغنائيتها.
كان صوته احتجاجًا هامشيًا على طقس عام من الحرمان والإقصاء عن بناء الضمير الجماعي العادل، وقد يكون هذا ضميرًا شعريًا لا غير. الصوت يحتج، لكنه يحذّر من الانزلاق من هامش الشعر إلى متن الهجاء الشعبوي، المعادل لمتن السلطة القمعي القديم."
شاعر التمرد
من جهته، يرى الكاتب د. عماد جاسم أن تجربة موفق محمد تمثّل نموذجًا فريدًا للشاعر المتمرد، الذي استثمر في القبح اليومي ليصنع منه نصًا صادقًا وصادمًا. يقول: إن "نصوص موفق محمد، ذات صلة بالواقع اليومي الراهن الساخن والملتهب الذي يتحدث عنه الناس ويجدون أنفسهم فيه، تحتل مكانتها في ذهن المتلقي، حيث يجتهد شاعرنا المتمرد بتوظيفها ضمن سياق النص، وكثيرًا ما أحدثت نصوصه خدشًا وكسرًا لاتفاق المبدع والمتلقي لمنح قصيدته قدرة الاختلاف والتجديد حتى بتصديره البؤس والحرمان، إذ إنه يتلمّس الكوميديا العراقية، ويستدعي الصوت الجمعي كي يكون بديلًا عن الذات، مجتهدًا ليكون المحرّك الفاعل في إنتاج النص العميق من دون التخلي عن لغة الإدانة أو حتى لغة الشتيمة واللعن المعروفة عنه." مضيفاً: "لكن شاعرنا الذي عاش ويلات النظام السابق، وما رافق ذلك النظام من تعسف وجوع وقتل للحرية، نراه في إحدى قصائده الغاضبة يُلقي باللوم على المحتلين، موجهًا لهم سهام الاتهام، لما فعلوه بالعراق، مذكّرًا ببؤس الحال والقتل المجاني، وثلاجات الموتى في سنوات الفوضى.
وتأتي قصيدته المعنونة (ما تبقى من أيامه) على شكل قراءة ساخرة للأخبار اليومية في وسائل الإعلام، إلا أن ذكاءه الشعري مكنه من طرح مشكلة الحرمان في ثنايا نصه الموجع."
صدق وسخرية
أما الكاتب والصحفي نوزاد حسن، فيسلّط الضوء على سخرية الشاعر وفرادته، ويقول: "إذا أردنا الحديث عن شاعر مهم مثل موفق محمد، فلا بد أن نتذكر أن لهذا الشاعر روحًا خاصة به. بعضهم لا يفهم ما يقوله موفق محمد بسبب الجرأة والسخرية الموجودتين في شعره. هو شاعر ساخر، وفي بعض قصائده يشتم وينتقد، ومتواضع بمظهره. لم يحمل حقيبة على كتفه، ولا وضع قبعة نيرودا الشهيرة على رأسه." مبيّناً أن هذه الصورة التي كنا نراها لهذا الشاعر لا يفهمها المتزمتون أو بعض ممن يراه أنه يتجاوز حدود الشعر إلى الشتم. مضيفاً "أقول يخطئ من يظن أن موفق محمد كان شاعرًا عاديًا. إن ما عذّب هذا الشاعر هو صدقه وحبه للفقراء والمحرومين، وحبه غير العادي لوطنه ولمكان ولادته. إنه يتغنى بأشياء بسيطة جدًا قد يراها الآخرون بلا قيمة، لكنها أشياء تعكس درجة صدقه الذي انعكس في قصائده.
في شعر موفق محمد نجد عبث أبي نواس، ومرارة المتنبي، وسخرية ابن الرومي. شعره العامي رائع، وشعره في الفصحى لا يقل روعة. ومن الممكن القول إنه شاعر الصدق، والصدق في النهاية موقف فني وإنساني في وقت واحد."
العمق الشعبي
ويختم الناقد صلاح عباس هذا الملف التأبيني برؤية تحليلية معمقة، قائلًا:
"لقد رسم موفق محمد لنفسه خريطة طريق مناوئة لكل جبار عنيد. لم يمتدح زعيمًا ولا سياسيًا، بل امتدح بسطاء الناس، مثل صديقه (علي النداف) الذي كان حرفيًا شبه أمي. لو أنه امتدح صدام حسين أو سواه، لتغيرت تمامًا طريقة تلقي شعره. كان صوته جهورًا، لا يهادن، لا يصالح. شاعر لا يعرف الاستراحة، ولا يعرف المصالحة مع الفساد والكذب والرياء. وكان خزينه الثقافي العميق يسمح له بتوجيه سهمه الشعري حيثما شاء، دون أن يفقد صوته صدقيته أو شجاعته.
لقد جاء موفق محمد من العمق الشعبي، ومضى دون أن يتنازل عن موقعه في هذا العمق. شاعر لا يمكن تصنيفه بسهولة، لأنه لم يكتب ضمن قوالب جاهزة، ولا التحق بأي تيار شعري بشكل مهادن. ظل، ببساطة، يقول كلمته كما يشعرها، لا كما تُملَى عليه." موضحاً أن تجربته الشعرية لا يمكن اختزالها بمفردات مثل (الغضب) أو (الشتيمة) فقط، بل هي تجربة مشبعة بالحب أيضًا – حب الوطن، وحب التفاصيل الصغيرة التي تكون نسيج الحياة اليومية. مضيفاً: "كان موفق محمد يرى في (الصمون) رمزًا، مثلما يرى الآخرون في (العلم) رمزًا، ويكتب عن اللهب وهو يُخبز في التنور وكأنه يكتب عن مصير وطن كامل.
في زمن طغت فيه البلاغة الفارغة والقصائد المصقولة الفارغة من المضمون، كان موفق محمد يكتب (بصدره العاري)، بلا زينة، بلا تزويق. ولذلك سيبقى في ذاكرة الشعر العراقي لا كشاعر عابر، بل كصوت لا يمكن تجاهله حين يُكتب تأريخ الشعر المقاوم، والشعر الصادق، والشعر الذي لم يتخلَّ عن الإنسان."
وفي وداعه، لا نملك سوى أن نردد ما قاله هو ذات يوم:
"قلبي، مُصفّى بالوطن، لا يخونه حتى في موته."
رحل موفق محمد، لكن قصيدته ما تزال تمشي في الأزقة، وتحمل سخرية الوجع العراقي، وتوزّع اللعنات على كل من خان هذا الوطن.