100%
همسة وائل
في كل صباح، تصطف طوابير الناس أمام الأفران، يمدّون أيديهم نحو أرغفة الصمون الساخنة، التي لا تكاد تخرج من التنور حتى يضعها البائع سريعًا في أكياس نايلون شفافة، فيحملها الزبون مطمئنًا، وهو يظن أنه أنهى مهمة بسيطة في يومه المزدحم.
لكن خلف هذه العادة اليومية يكمن خطر صامت لا يراه أحد، خطر قد يبدأ من رائحة بلاستيك ذائب، وينتهي بأمراض خطيرة تفتك بالجسم بصمت.
إنها ليست مبالغة، بل حقيقة علمية تؤكد أن وضع الخبز، أو الصمون الساخن، في أكياس النايلون يؤدي إلى تسرب مواد كيميائية سامة، بعضها مصنف كمسرطِنات.
فما الذي يحدث فعليًا عندما يتلامس الخبز الساخن مع البلاستيك؟ ولماذا لا تزال هذه الممارسة مستمرة رغم التحذيرات؟ وهل هناك وعي حقيقي لدى المواطن والبائع على حد سواء؟
في هذا التحقيق، نفتح ملف (الصمون والنايلون)، ونقترب أكثر من تفاصيل الخطر الذي بات جزءًا من طعامنا اليومي.
ففي ظل التوسع العمراني والتطور الصناعي المتسارع، أصبحت المواد البلاستيكية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، إذ تُستخدم في تغليف وتعبئة معظم المواد الغذائية، ومن أبرزها الخبز والصمون، اللذان يشكلان الوجبات الرئيسة في معظم البيوت. وبرغم سهولة استخدامها وانخفاض تكلفتها، إلا أن أكياس النايلون التي تستخدم في تعبئة الخبز الساخن تحمل مخاطر صحية وبيئية جمّة، غالبًا ما تغيب عن وعي المستهلكين.
مخاطر صحية
أكياس النايلون تُصنع من (البوليمرات) المشتقة من البترول، وعندما تُستخدم لتعبئة الخبز أو الصمون الساخن، فإن الحرارة تؤدي إلى انبعاث مواد كيميائية ضارة يمكن أن تنتقل إلى الطعام، ما يشكل خطرًا صحيًا متزايدًا مع التكرار والمدة الزمنية، كما أنها تحتوي على:
* البيسفينول: وهو مركب كيميائي يُستخدم في تصنيع البلاستيك الصلب و(الراتنجات)، وله تأثيرات معروفة على الجهاز الهرموني للإنسان، إذ يسبب اضطرابات في إفراز الهرمونات، ويرتبط بزيادة خطر الإصابة بسرطان الثدي والبروستات واضطرابات الإنجاب.
* الفثالات: التي تُستخدم لتليين البلاستيك، وتتسرب بسهولة عند ملامستها الدهون والحرارة، مسببة اضطرابات في وظائف الكبد والكلى، كما تؤثر سلبًا على الجهاز التناسلي وقد تؤدي إلى عيوب خلقية عند الأطفال.
* الدايوكسينات: التي تنتج كمواد ثانوية عند تعرّض البلاستيك للحرارة، وهي من أخطر المواد السامة والمعروفة بقدرتها المسرطنة وتأثيرها السلبي على الجهاز المناعي.
* الميكروبلاستيك: وهي جزيئات دقيقة تتكسر من أكياس النايلون وتدخل إلى الجهاز الهضمي، وقد تُسبب التهابات مزمنة وأضرارًا صحية لم تُدرس آثارها بعد بشكل كافٍ
وتشير دراسات حديثة إلى أن التعرض المزمن لهذه المواد يمكن أن يؤدي إلى مشكلات صحية مزمنة، مثل الالتهابات، واضطرابات الغدد الصماء، وأمراض القلب، والسرطان، وهو ما يجعل الاستمرار فيها خطرًا كبيرًا على الفرد والمجتمع.
في أسواقنا ومخابزنا المحلية، ما زالت أكياس النايلون هي الخيار السائد لتعبئة الخبز، رغم تحذيرات الخبراء.
أم أحمد، ربة بيت تبلغ من العمر 38 عامًا، تقول: "لم أكن أعلم أن وضع الصمون الساخن في كيس نايلون يشكل خطرًا. لطالما اعتبرته عادة طبيعية وسهلة، لكن بعد أن قرأت عن تأثيراتها الصحية، بدأت أتجنبها وأطلب استخدام أكياس ورقية."
أبو علي، صاحب فرن، عمره 52 عامًا، يشرح واقع السوق: "الزبائن يطالبون بأن يكون الخبز ساخنًا في كيس نايلون، وإذا طلبنا منهم الانتظار ليبرد، أو استخدمنا أكياسًا أخرى، يشتكون من ارتفاع السعر أو عدم الراحة. نحن بحاجة إلى حملات توعية وتدخلات رسمية لضبط هذه المشكلة."
أثر بيئي
إلى جانب الأضرار الصحية، تشكل أكياس النايلون تهديدًا بيئيًا كبيرًا، فهي تستغرق مئات السنين لتتحلل في الطبيعة، وتُسبب تلوثًا خطيرًا في التربة والمياه، كما تؤذي الحياة البرية التي قد تبتلع هذه الجزيئات البلاستيكية أو تعلق فيها، ما يُسبب نفوقًا واسع النطاق للحيوانات.
وتؤكد الدراسات أن مخلفات البلاستيك تتجمع في البحار والمحيطات، ما يؤدي إلى كارثة بيئية عالمية تهدد السلامة البيئية ومستقبل البشرية.
وقد بدأت دول عدة ومنظمات صحية وعلمية في تبني سياسات تحد من استخدام البلاستيك، وخاصة في مجال الأغذية الساخنة:
المنظمة العالمية للصحة حذرت من التعرض المفرط للمواد الكيميائية البلاستيكية وأوصت بتقليل استخدامها، خاصة في تغليف الأطعمة الساخنة.
اما الاتحاد الأوربي فأصدر قوانين للحد من استخدام البلاستيك في التعبئة، وشجع على تطوير بدائل صديقة للبيئة مثل الأكياس القماشية والأكياس الورقية القابلة للتحلل.
في العراق، هناك توجهات متزايدة لزيادة الوعي الصحي والبيئي، مع دعوات من منظمات المجتمع المدني لوضع قوانين تحد من استخدام النايلون.
أما البدائل العملية، فالأكياس الورقية أكثر أمانًا من النايلون لأنها لا تذوب ولا تنبعث منها مواد سامة عند تعرضها للحرارة. كما أن الأكياس القماشية (القطنية) قابلة للغسل وإعادة الاستخدام، وتُقلل من النفايات البلاستيكية.
في نهاية هذا التحقيق، يبقى واقع استخدام أكياس النايلون لتعبئة الخبز الساخن مرآة صادقة لمستوى وعينا الصحي والبيئي، ومؤشرًا على مدى اهتمامنا بصحتنا وصحة أبنائنا. ما يبدو لنا عادة يومية بسيطة، لا نستشعر خطورتها، هو في الحقيقة قنبلة موقوتة تنفجر بصمت داخل أجسادنا ومع مرور الزمن، تاركة وراءها أمراضًا مزمنة ومشكلات صحية يصعب علاجها.