100%
محسن ابراهيم
"أعطني مسرحاً وخبزاً أعطِك مجتمعاً عظيماً." حين أطلق شكسبير هذه المقولة، كان يعي أن للفن طاقة إيجابية تعيد بناء شخصية الفرد، ما يجعله يتصف بكل الصفات الحميدة وتُكرّس في داخله القيم النبيلة لبناء مجتمع ينبذ كل ما هو مسيء.وحين تمر في شوارع بغداد، تعرج بك قدماك إلى أماكن كانت وما زالت تتنفس ثقافة وفنّاً، تشعر بأن أجنحة من نور تحلق بك فوق مساءات بغداد الجميلة، تتحرك متجهاً نحو الضوء وتزداد رغبتك في التحليق لترتشف من زادك الروحي: مسرحاً وموسيقى وغناء وسينما.
المسرح في العراق ثقافة وطنية احترفها الفنانون تمثيلاً وإخراجاً، وشغف بها المتفرجون احتراماً وتقديراً. نشأ المسرح في أزقة المدينة، وعلت أصوات الممثلين في أرجاء خشباته، ومع هذه الأصوات علا نجم المسرح وسطعت أنواره بين الاحترافية الفنية والتكوين الأكاديمي الإبداعي.
قيم فكرية
في بداية السبعينيات من القرن الماضي، شهد العراق نهضة ثقافية وفنية مشهودة. وكان لعودة الكثير من الفنانين والمبدعين بعد إكمالهم دراستهم الأكاديمية، وحصولهم على شهادات التخصص من خارج العراق، والتحاقهم بزملائهم من الفنانين، وانضمامهم إلى الهيئة التدريسية في معهد أو أكاديمية الفنون الجميلة، أثرٌ في تنشيط الحركة الفنية والثقافية في العراق، حيث ازدهرت الحركة المسرحية وتطورت، وازداد عدد الفرق المسرحية، وكان إقبال الطلبة على الدراسة في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة على أشده، وازدادت أعداد الذين يرتادون المسرح وتنوعت اختياراتهم، ما جعل من الضروري البحث عن مسارح وقاعات جديدة تتسع لهذا الكم من الفنانين الباحثين عن الجديد، فقام عدد من الفنانين باستئجار مقرات لهم في شقق وبنايات صغيرة ليمارسوا تدريباتهم هناك، وأصبحت تلك الأماكن مقرات للفرق المسرحية، وشهدت تلك الفترة انطلاق مسرح الستين كرسي، ومسرح بغداد.
ذائقة جمالية
العروض المسرحية الرصينة التي قدمت من قِبل الفرق المسرحية، وخاصة في عقدي الستينيات والسبعينيات، مثل (النخلة والجيران)، و(بغداد الأزل بين الجد والهزل)، و(رحلة في الصحون الطائرة)، و(غيفارا عاد)، وغيرها من عشرات العروض التي قدمها فنانون كبار مثل يوسف العاني، وخليل شوقي، وقاسم محمد، وسامي عبد الحميد، وجواد الأسدي، وروميو يوسف، ومقداد عبد الرضا، وآزادوهي صاموئيل، وفاضل خليل، وغيرهم، شكّلت منهلًا ثقافيًا لأجيال من العراقيين، أفرزت قيماً فكرية وعمقت الذائقة الجمالية، وكانت لسان حال المشاهد لما حملته من أفكار نابعة من هموم المواطن والوطن.
رقابة السلطة
كانت خشية السلطة آنذاك من هذه العروض المسرحية ومن خشبة المسرح كبيرة، وكانت لجان فحص النصوص تدقق كثيراً في النصوص المسرحية، وكان هاجسها الأول هو أن تلك الفرق تبث الفكر اليساري.
بعد هذا النجاح الكبير والعروض التي كانت تحمل في طياتها قيماً فكرية وجمالية، أصبحت خشبة المسرح مخيفة بالنسبة للسلطة الحاكمة، وباتت تحسب لها ألف حساب، ولم تكن تريد أن تسمح لهذا الشغف بالانتشار في الأوساط الثقافية والجماهيرية، فبدأت المضايقات ضد الفرق المسرحية وأعضائها، وهاجر من العراق غالبية الممثلين والممثلات والعاملين فيه، وغالبية الذين أسهموا في تأسيسه.
من تحت الرماد
العديد من المسارح العراقية نالها التدمير على يد خفافيش الظلام، وأمست الحركة المسرحية تئن تحت أكوام الرماد والشلل الذي أصاب البلاد في جميع مرافقها.
مهرجانات عربية ودولية
في منطقة الصالحية، على مقربة من فندق المنصور ميليا، وما بين مبنى محافظة بغداد وشبكة الإعلام العراقي، كان الفنانون يقرأون يومياً تراتيل الحسرات على أطلال مسرح الرشيد، الذي شهد أول عرض مسرحي وهو مسرحية (الأرض والعطش والإنسان) تأليف وإخراج قاسم محمد، لتتوالى بعدها مسرحيات شكسبير، ويوسف الصائغ، ومحيي الدين زنكنة، وهذيان عدنان الصائغ (الذي ظل يقظاً)، ومسرحيات (الملك لير)، و(تفاحة القلب)، و(الجنة تفتح أبوابها متأخرة)، و(روميو وجولييت)، و(مخفر الشرطة القديم)، والأمسيات الموسيقية ومعزوفات تشايكوفسكي وبيتهوفن.
بعد جهد أبناء المسرح، عادت الحياة إلى خشبته، واستضاف العديد من العروض المسرحية والمهرجانات العربية والدولية الخاصة بالمسرح.
المسرح الوطني في بغداد، الذي أنشئ في العام 1977 وافتتح في العام 1981، وكانت مسرحية (كلكامش) للمخرج سامي عبد الحميد هي أول عرض مسرحي على خشبته، كما استقبل المسرح العديد من العروض المسرحية المهمة والمهرجانات الفنية والثقافية، كان أبرزها أسابيع سينمائية لدول عدة ومهرجانات سينمائية دولية ومحلية.
مسرح المنصور هو الآخر نفض الغبار عن نفسه، وقدم على خشبته في ثمانينيات القرن الماضي العديد من الأعمال المسرحية منها: (العودة) و(الباب) ليوسف الصائغ ومن إخراج الراحل قاسم محمد، والمسرحية الشعبية (بيت وخمس بيبان) تأليف فاروق محمد وإخراج محسن العلي.
الخشبة الأخرى هي خشبة منتدى المسرح، التي تكمن أهميتها في عروضها التي يغلب عليها الطابع التجريبي، تلك العروض التي تكتسب أهميتها من مكانة مخرجيها المسرحيين.
هذه الخشبة استقبلت مخرجين مهمين، منهم: ناجي عبد الأمير، وعباس الحربي، وكاظم النصار، وأحمد حسن موسى، وحيدر منعثر، وغانم حميد، وحنين مانع، وحميد صابر، وياسر البراك، وقاسم زيدان، وآخرون، فضلاً عن المؤلفين المسرحيين أمثال: فلاح شاكر، وعلي عبد النبي الزيدي، وقاسم مطرود، وعلي حسين، وحنين مانع، وعبد الخالق كريم، وزيدان محمود.
كل هذه الخشبات، وعلى مدى سنين طوال، استضافت العديد من روائع الأدب العراقي والعالمي، فضلًا عن المهرجانات، حيث شهدت افتتاح أربع عشرة دورة لمهرجان المسرح العربي، وخمس دورات للمسرح العالمي.