100%
شمخي جبر
يلعب التفاعل الثقافي دوراً مُهماً في توطيد التواصل والحوار بين الشعوب، ومن خلال هذا التفاعل تستطيع الشعوب أن ترى نفسها في عيون الشعوب الأُخرى، فنرى آثارنا لدى غيرنا، كما يرون تأثيرهم في مظاهرنا الثقافية والفنية. ولعل الغناء والفنون الموسيقية هي اللغة المشتركة بين الأمم، التي لا تحتاج لترجمتها ليتم فهمها، فهي لغة عالمية مشتركة بين الشعوب.
يمكن الإشارة إلى أغنية (ميحانة ميحانة)، أو كما يسميها بعضهم (جسر المسيب)، أغنية عراقية قديمة اشتهرت حين غناها المرحوم ناظم الغزالي، الذي وصلت أعماله إلى أقصى دولة في العالم العربي. هذه الأغنية غناها أحد قادة الثورة التونسية (شكري بلعيد) مع المطربة يسرى محنوش، التي كانت قد غنتها واشتهرت بها.
كيف جرى هذا التطابق الموضوعي بين كلمات الأغنية والواقعة التاريخية لاستشهاد المناضل (شكري بلعيد)، فكأن كلمات الأغنية تشير إلى انتظار رجوع الغائب (ميحانة ميحانة... ميحانة ميحانة...غابت شمسنه الحلو ما جانه).
الشمس التي ينتظرها المنشدون لهذه الأغنية هي شمس الشهيد، التي ارتبط بها وجوده في ساحات الوجود الشعبي والجماهيري في ساحات وشوارع تونس.
نعم، يمكن تلمس هذه اللوعة والحزن لفقدان الشهيد بلعيد
(عافت عيوني النوم بعدك حبيبي العين ذبلانة
ظليت أنا سهران وارعى نجومي ليش ماجانه
واتسامر ويا الليل واجمع همومي وروحي تلفانه
خلي الدموع اتسيل من عيني دمها الروح ضمآنه
واللي فديته الروح روحي ظلمها بسكَم خلاّنه).
أية هندسة تاريخية هذه التي جمعت بين أغنية تراثية ل عراقية تنتظر حبيبها على جسر المسيب، وبين شعب فقد مناضلاً، كان قد سمع هذه الأغنية وأحبها حين كان موجوداً في بغداد يدرس القانون في جامعة بغداد.
ترابط عجيب وتماسك بين الجغرافيا والتاريخ وهندستهما، وإلا كيف يكون كل هذا التواشج بين عشق عراقي، وشهيد عاشق لوطنه وشعبه.
في هذه الواقعة (الأسطورة التاريخية) أرى أن العراق وشعبه وتاريخه هو من صنع، وهو من قدم، شكري بلعيد، الذي كان عراقي الهوى والروح والثقافة، هذا الذي يتمايل جذلاً وطرباً وعشقاً وحنيناً وهو يستمع لهذه الأغنية قبل استشهاده، لتتحول إلى موسيقى جنائزية تصلح أن تنشد في تأبين الشهيد، وهو ما حدث.
لكن أحداً لم يكن يتوقع أن تصل شهرة هذه الأغنية إلى هذا المستوى، إذ أصبحت هتافاً وطنياً على ألسنة وحناجر القوى المدنية في تونس، بعد أن غناها الشهيد (بلعيد)، الذي اغتيل في 6 شباط 2013.
كيف تحولت أغنية (جسر المسيب) إلى شعار للثورة التونسية؟، يرددها الشباب والكبار في جميع اللقاءات والأنشطة السياسية والجماهيرية، فأصبحت وكأنها النشيد الوطني التونسي، هذه الأغنية تحولت إلى نشيد وطني حقيقي في كل التظاهرات والمسيرات في تونس، وفي فعاليات الوفد التونسي في مؤتمر المنتدى الاجتماعي العالمي 2013.
واستطاع الوفد العراقي المشارك في مؤتمر المنتدى الاجتماعي العالمي أن يستثمر شهرة هذه الأغنية وذيوعها بين التونسيين، فكانت إحدى أهم فعالياته، حين استطاع جذب تعاطف الشعب التونسي وتضامنه وهو يؤدي هذه الأغنية والأغاني العراقية الأخرى باللهجة العراقية التي يحبها التونسيون، رغم صعوبتها. إذ كان الوفد العراقي يؤديها في الباصات والأسواق، كرسالة تواصل مع الشعب التونسي وقواه المدنية التي تعاطفت مع العراق وقضاياه الوطنية وما يواجهه من تحديات.
هنا يمكن أن نشير إلى أهمية الفنون الإبداعية كوسيلة اتصالية بين الشعوب، ولعل الأغنية، بما تملكه من تأثير وجداني عاطفي، أهمها على الإطلاق، وهذا ما أكدته أغنية (ميحانة ميحانة).