تمشي على حافة التاريخ والفن والحلم مدينة لا تُزار.. بل تُعاش

تحقيقات

تمشي على حافة التاريخ والفن والحلم مدينة لا تُزار.. بل تُعاش
100%
ريا عاصي ""بغداد ليست مدينة، بل فكرة حيّة"،" هذا ما قاله عنها أحد المعماريين الأوربيين الزائرين في ستينيات القرن الماضي. من يمشي في شوارعها لا يرى جغرافيا فقط، بل طبقات من الذاكرة، من الخوف والفرح والحنين، تشكّلت على مرّ قرون. قال عنها الشاعر مصطفى جمال الدين "بغدادُ، يا هَزَجَ الأيّامِ في خَلدي ويا قصيدةَ شوقٍ خطّها جسدي" معماريو الحداثة (بغداد بناها أفضل مصممي عصرها، وتجدّدت على يد أبنائها). حين خطّ أبو جعفر المنصور حدود مدينته المدورة سنة 762م، اختار فريقًا من نخبة المعماريين والمنجمين من كافة ارجاء الدولة الإسلامية ، لتكون بغداد (قلب الأرض) كما أرادها. وبعد أكثر من ألف عام، عادت بغداد لتجذب أفضل مصممي العالم، الذين أعادوا رسمها بروح حديثة، بينهم المهندس الإيطالي (فالنتينو) في فترة الخمسينيات، إلى العراقيين الكبار الذين أعطوها شكلًا ناطقًا، من أمثال رفعة الجادرجي، وهشام منير، وقحطان المدفعي، وقحطان عوني، أسماء لم تصمم مباني فقط، بل صاغت هوية وطن. شواهد التاريخ (في بغداد، لا يكتفي التاريخ أن يُحكى، بل يقف شاخصًا). يقف الباب الوسطاني شامخًا من بقايا سور بغداد الشرقي، رمزًا على الحراس الذين مرّوا بها من كل العصور. وتبقى المدرسة المستنصرية على ضفاف دجلة شاهدة على عصور ازدهار العلم والفكر العباسي. وعلى مقربة منها يقف القصر العباسي كبناء ذي واجهة مزخرفة ونوافذ مقرنصة تطل على نهر دجلة. وبينهما تقف القشلة، ثكنة عسكرية عثمانية شُيّدت في القرن التاسع عشر. يشتهر مبناها البرجي بساعة القشلة التي أهداها الوالي مدحت باشا إلى المدينة، وكانت آنذاك رمزًا للتحديث. واليوم، تحوّلت ساحتها إلى ملتقى أدبي وثقافي، تُقام فيه معارض كتب وفنون. وعلى بعد أمتار عدة يقع خان مرجان كمحطة أساسية للتجار القادمين من الهند والشام وبلاد فارس، ومَعلَم سلجوقي يضاف إليها. وبرغم أن موقع المدائن يقع على مشارف بغداد الجنوبية، إلا أن أهميته الحضارية تجعل منه امتدادًا لهويتها. هنا، ينتصب طاق كسرى، أوسع قوس مبني بالطابوق في العالم القديم، كأنّه حائط من الزمن، يحرس بقايا عاصمة ساسان العظمى، ويذكّر بالاتصال التاريخي بين العراق قبل الإسلام وبغداد الإسلامية. وإن رفعت بصرك خارج المدينة، لن تبتعد كثيرًا حتى تلامس ظلال بابل وآشور، فبغداد ليست فقط مركزًا، بل نقطة التقاء بين أقدم الحضارات التي كتبت حروف العالم الأول. عاصمة الروح والدين من الكرخ إلى الرصافة، لا يمكن أن تخطو في بغداد إلا وتلمح مئذنة، أو قبة، أو ناقوسًا، أو ضريحًا. هذه المعالم ليست مجرد أحجار، بل هي ذاكرة عاصمة صاغت الدين بروح التعدد، وحملت التصوف والفلسفة واللاهوت والسياسة على أكتاف الطين والذهب، إذ يُعد جامع الخلفاء في شارع الرشيد أحد أقدم الجوامع العباسية الباقية، وفي شمال المدينة، تبرز مدينة الكاظمية، حيث يقع مرقد الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد، تحفة معمارية ذهبية الطراز، شهدت إضافات وتوسعات على مر العصور. أما في العطيفية، فنجد جامع براثا، وهو من أقدم المساجد في بغداد، وتعود تسميته إلى الدير المسيحي القديم الذي كان في الموقع قبل الإسلام. يُنسب للجامع شرف احتواء آثار ومحراب صلى فيه الإمام علي (ع). أما في قلب بغداد القديمة، فـمرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني، مؤسس الطريقة القادرية، الذي يمثل أحد أبرز المزارات الصوفية في العالم الإسلامي. أما الجامع الكبير في الأعظمية، الذي يحتضن ضريح الإمام أبي حنيفة النعمان، فيُعتبر مركزًا علميًا ودينيًا منذ القرن الثامن الميلادي. إلى جانب ذلك، تواصل كنائس بغداد سرد حكاية التنوع، من كنيسة مريم العذراء النسطورية في الشورجة التي تعود إلى العصر الأموي، إلى كنيسة مار يوسف الحديثة في الكرادة، وكلتاهما شاهدة على امتداد الجذور المسيحية في المدينة. وعلى ضفاف النهر يقف صليب يوحنا المعمدان، متشحًا بوشاحه الأبيض، رمزًا لتعميد المندائيين وارتباطهم الأزلي بالماء والنور. وفي الكرخ أيضًا عند النهر، يقع مقام الخضر في الشواكة، وهو مقام صغير يرتاده الناس من مختلف الطوائف للتبرك والتوسل، ويُحيط به تراث غني من الروايات الشعبية حول الكرامات والزيارات. نصب تتكلم قال النحات جواد سليم: "الفن في بغداد لا يُعلّق على الجدران، بل ينهض في الشوارع." يُعد (نصب الحرية) أيقونة الحداثة النحتية في الشرق الأوسط، صاغه جواد سليم ليحكي سيرة العراق من الملكية إلى الثورة. يجاوره نصب (الأم) لخالد الرحال وله أيضا (الجندي المجهول)، الذي تحدى العلم في إيقاف القبة الحديدية على تماس في الأرض من نقطة واحدة ، ثم (نصب الشهيد) لإسماعيل فتاح الترك، حيث يتحول الموت إلى قبة تنزف ضوءًا. وفي كل ساحة بغدادية، يُمكن أن ترى تمثالًا لمحمد غني حكمت، حين حول شخوص ألف ليلة وليلة إلى أيقونات تروي حكايات بغداد، حيث يتمدد شهريار وهو ينصت لشهرزاد عند سفح النهر في أشهر شوارعها، وكهرمانة التي أسكرت الأربعين حراميًا في الجرار، ومنعتهم من غزو مدينتها عند الكرادة، والفانوس السحري الذي يقف شاخصًا أمام المسرح الوطني، والعديد من النصب والقصائد والشخوص، لكنه يختمها بتمثاله المتمثل بإنقاذ الحضارة بين الحارثية والمنصور، ليقف العراق شامخًا عظيمًا في كل أشكاله. ألوان المدينة في مشهد الفن التشكيلي، تألقت بغداد بأسماء رسخت حضورها العربي والعالمي، منهم فائق حسن، الذي وثّق الطبيعة العراقية بواقعية شاعرية لتقف جداريته (السلام) في ساحة الطيران كصورة لمشهد عراقي جميل، وتلميذه غازي العبودي الذي رافق تحولات اللون البغدادي بتجريب بصري أنيق، وزينت لوحاته أبواب حديقة الزوراء من كل جانب، كما لونت فسيفساؤه جدران المتحف البغدادي من الخارج، لتكون شاهدًا على تحولات المدينة بين ماضيها وحاضرها. أما اليوم فتشهد بغداد معارض فنية كبيرة تقام على قاعة جمعية التشكيلين بشكل دوري، كما شهد العقد الأخير افتتاح العشرات من (الكاليريات)، وقاعات لعرض كافة أنواع الفنون التشكيلية العراقية والعالمية. مقاهً و مسارح "صوت بغداد لا يأتي من المغنين فقط، بل من الناس أيضاً"، هذا ما قالته قارئة المقام العراقية فريدة محمد علي. بغداد لا تنام في المساء، بل تتحول إلى مسرحٍ مفتوح. ففي أحد مقاهي بغداد القديمة في ثلاثينيات القرن المنصرم غنت كوكب الشرق أم كلثوم لها، ومن بعدها فريد الأطرش وعبد الوهاب، كما زارتها فيروز عام 1976، وظلت مقاهي بغداد لعقود طويلة مسارحَ للغناء والفنون، في حين وصل صوت ناظم الغزالي إلى دول المغرب العربي، وأصوات أخرى، منها سليمة باشا وعفيفة اسكندر، كما نتذكر كيف صفق الشاعر أحمد رامي للقبنجي وهو يستمع إليه. أما اليوم، الفرقة السمفونية العراقية تقيم حفلًا شهريًا على مسارح بغداد، كما تتسابق الفرق الفنية مثل (سومريات) و(مصطفى زاير) وفرقة (حلم)، لحجز موعد في إحدى قاعاتها أو مسارحها الأهلية والوطنية. لمقاهي بغداد طعم آخر، ففي (مقهى رضا علوان) يلتقي الشعر والأدب، وفي (كهوة وكتاب)، يمتزج الفن السابع بالمسرح، حين تسمع الجدل العميق بين صنّاع المسرح والسينما. وعند (الفيصلية)، تصعد فرق شابة تقدم الجاز العراقي. وفي (أطراس)، تتحول الكتب كل يوم جمعة إلى جوقة جمعية تقرأ وتناقش في نادي الكتاب، بينما ما تزال مقاهي بغداد الأدبية القديمة محتفظةً برمزيتها وروادها، بين محبي الأركيلة الخشبية في مقهى (حسن عجمي)، وسامعي المقام في مقهى (الزهاوي)، ومحبي كوكب الشرق في مقهى (أم كلثوم)، ومقتني وجامعي الكتب في مقهى (الشابندر). من زارها؟ زارها ابن بطوطة، فوصف أهلها بالذكاء والكرم، وأحبها ماركو بولو، الرحّالة الإيطالي، واستوقفت جان بول سارتر، وسيمون دو بوفوار، بفضائها الفكري. كما بلغ حب المس بيل ( 1886 - 1926) لبغداد حدًا جعلها تختار أن تُدفن في ترابها بعد وفاتها، لتبقى المدينة، التي كرّست حياتها لها، مستقرها الأبدي، وكتبت الكاتبة البريطانية أجاثا كريستي فيها أهم رواياتها. كما زارها كل من طاغور والمهاتما غاندي، قادمين من شبه القارة الهندية لزيارتها، وقد مر فيها الغزاة ليعشقونها لاحقًا، مثل الأسكندر المقدوني وتيمورلنك، وشقّ نهرها أيام العباسيين أسطول الفايكنغ، ليروا بأعينهم ما حدّثهم ابن فضلان، عن نظافة بغداد وجمالها. بغداد الصوفية لا تزال الأرواح الصوفية تهمس في الأزقة، وتُطلّ من خلف الجدران العتيقة. منذ القرن الثاني الهجري، كانت المدينة مهداً للتصوف الإسلامي، ومركزًا لإشعاع روحي فريد، حيث اجتمع فيها الفقه والعرفان، الزهد والمحبة. في الكرخ، يقع مرقد الجنيد البغدادي (سيد الطائفة - 910 م)، الذي أسّس في القرن الثالث الهجري لمدرسة التصوف المعتدل، جامعًا بين الشريعة والحقيقة. لا يزال مقامه مقصدًا للباحثين عن السكينة، وحيّ (الشيخ جنيد)، يحمل اسمه حتى اليوم. قريبًا منه، في الكرخ أيضًا، يستقر مرقد معروف الكرخي (815 م)، أحد أقدم الأولياء في بغداد. وُلد في الكرخ وكان من المقرّبين للإمام الرضا. يُعدّ من الجيل الأول في التصوف الإسلامي، وتميّز بالزهد وخدمة الناس، وتحول قبره إلى مزار منذ أوائل العصر العباسي. وفي العصر العباسي المتأخر، بزغ نجم الشيخ شهاب الدين عمر السهروردي (1234 م)، مؤسس الطريقة السهروردية. وُلد وعاش في بغداد، ودرّس بالمدرسة النظامية، وخلّف إرثًا علميًا صوفيًا معتدلًا، جمع بين الفقه والروحانية. مرقده في منطقة الشيخ عمر بالرّصافة، وتحمل بصمته المعمارية والروحية. أما الحسين بن منصور الحلاج، فقد مثّل وجهًا آخر من التصوف البغدادي، فكان شاعرًا وعاشقًا ومتمردًا. عمارة المستقبل تركت زها حديد بصمتها في بغداد عبر مشروع (البنك المركزي العراقي)، الذي يبدو كأنه سفينة فضاء غرست جذورها في التراث. ومن بعدِها، برز اسم منهل الحبوبي الذي صمم مبنى الأمانة العامة لمجلس الوزراء، ليواصل إرساء أسس المعمار الحديث في قلب العاصمة، مازجًا بين الحداثة والهوية الثقافية، عاكساً رؤية معمارية تعبر عن التطور والتجدد في العراق. نبض الملاعب في بغداد، كرة القدم ليست رياضة فقط، بل طقس اجتماعي حي. يقف ملعب الشعب الدولي، الذي افتُتح عام 1966، كأيقونة رياضية شهدت لحظات الفخر والانتصار، وما زال يشهد جموعًا تهتف للمنتخب الوطني. كما تضم المدينة أندية عريقة صنعت أسماءً خطّت تاريخ الكرة العراقية. ذاكرة حيّة بغداد لا تكتفي بالحديث عن الماضي، بل تحفظه. في المتحف الوطني العراقي، تستقر أقدم حضارات العالم تحت سقف واحد، من سومر إلى بابل. أما المتحف البغدادي، فستجد فيه مجسمات تصوّر الحياة اليومية لأهالي بغداد في القرن الماضي. في متحف الإعلام العراقي، تسير بين مايكروفونات وأجهزة بث تحكي قصص البلد منذ بداياته. وفي زاوية أكثر حميمية، تجد متحف الجواهري، حيث القصائد موضوعة كجواهر بين كتب وسرير الشاعر، وفي متحف الوائلي يتردد صوتُه المترفع كأذان في فجرٍ ثقافي. زيارة بغداد ليست تذكرة سفر. إنها امتحان للذائقة، للصبر، ولقدرتنا على الحب بعد الألم. من يزورها لا يعود كما كان. لأنها لا تعطيك شيئًا جاهزًا، بل تضعك أمام نفسك، بكل ضياعك وجمالك.

إقــــرأ المــــزيــــــــد

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال
تحقيقات

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي
تحقيقات

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي

حياة بلا تواصل اجتماعي..  هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟
تحقيقات

حياة بلا تواصل اجتماعي.. هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟
تحقيقات

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي
تحقيقات

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"
تحقيقات

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"

أبرز الأخبار

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

قصة إعدام الفنان صباح السهل

قصة إعدام الفنان صباح السهل

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج