100%
يوسف المحمداوي
"في السجن صرت كاتبًا محترفًا"، قالها الراحل جمعة اللامي في أحد حواراته. هذا الاعتراف يرسم لنا معادلة أدبية واقعية تؤكد أن الإبداع خريج جامعة المعاناة، سواء كانت سجنًا أو فقرًا، وغيرها من المعاناة التي تصقل موهبة الإبداع. هكذا كان جمعة عجيل درويش راشد اللامي، المولود في محافظة ميسان، محلة الماجدية، في العام 1947،
دخل السجن عام 1963بسبب نشاطه في الحزب الشيوعي العراقي، أي أن عمره حين حل نزيلًا في سجون الحرس القومي، لم يكن يتجاوز الـ (16) عامًا، وأنجز مجموعته الأولى (من قتل حكمة الشامي)، في سجن الحلة عام 1967، لكنها لم ترَ النور بسبب معوقات النشر، إلا في العام 1976. وقد سبقها بمخطوطة ضاعت منه في السجن تؤرخ لحياته في السجن، وهذا دليل دامغ، يبرهن ما قاله: "في السجن صرت كاتبًا محترفًا"، والسجن أيضًا هو من جعل اللامي عنيدًا، شجاعًا، مهابًا، جسورًا، من بين أبناء جيله في عالم السرد، وبشهادتهم. وقد يكون للجينات الوراثية سبب في تلك الشجاعة، لكون جده، بالجذور اللامية، البطل (غضبان البنية)، الذي أرعب الإنكليز بشجاعته. وقد ذكر ذلك، وبيّن تلك الصفات الشاعر والإعلامي علي وجيه عباس في مقالته التي يرثيه فيها قائلًا: "يابيرغ الشرجيه، ياوكح نكرة السلمان، أيها القصير وأطول من أرى في الصور الجماعية.. حدثني الراحلان د. محمد حسين الأعرجي حين أوشكت على تحطيم جمجمته بزجاجة، بسبب نقاش يخص (إخوان الصفا)، وخضير ميري، حين أوشكت، رغم شيخوختك أن تحطم عليه الحانة المصرية.. أيها الوكح، الزلمة، العجيب! ثم ترق، وتكون متصوفًا أرق من سمنون المحب، تجن بزينب، وغير زينب، أليس هؤلاء نحن؟ أن نكون الصلبين على الخلائق، وأن نكسر أضلع السلطات، واللغة، والفنون، ثم نتناثر رمادًا قرب أصابع حبيباتنا؟"
كم كنت سعيدًا وأنا أتصل بك تلفونيًا أكثر من مرة لأحصل على عمودك الثابت في مجلة الشبكة العراقية (ذاكرة المستقبل)، التي تشرفت بالعمل فيها كمدير للتحرير، كانت تلك الحوارات التلفونية، وباللهجة العمارتلية، وكأنها اتصال روحي بين محلة الماجدية، التي أنجبتك، والجديدة، التي ولدتُ فيها. وكأن مرقد سيد عاشور في محلتك يناغي دار سيد عكلة في محلتي، ولا يمكن أن أصف سعادتي حين بشرني ولدك عمار بوصولك إلى بغداد لألتقيك، ولأول مرة بحياتي، في قاعة (كهوة وكتاب)، وكان اللقاء بحضور القاص الكبير محمد خضير، الذي آثر المجيء من البصرة إلى بغداد من أجل أن يراك. ما أسعدني وأنا أجلس بين عملاقين يتباهى بهما عالم السرد، ومع أول قبلة على خدك السومري أيها (المشرشب)، قلت لي وبابتسامة الطفل البريء: "ولك يوسف لو باقين على التلفون هواي أحسن"، فسألته مندهشًا: "ليش مو آني مشتاقلك"، فتحولت ابتسامته الى ضحكة عالية وهو يقول: "يوسف صورك بالفيس ولك كلش حلوه، وهسه شفتك بالحقيقة كلش تعبان"، فأحزنته بالرد حين قلت: "أبا عمار، استشهاد ولدي علي تعبني وشيبني." بعدها أصبحت ضحكته دمعة مواساة، وهو يردد: "كلنا على هذا الطريق، وعلي بطل وعريس بالجنة يا يوسف."
أتذكر جيدًا حين دخل علينا ولدك، النادر بأخلاقه، إلى المجلة، طالبًا منا الشهادة على سجنك كسياسي، أنا ورئيسة التحرير في ذلك الوقت، الإعلامية الكبيرة السيدة نرمين المفتي، وذهبنا بمعية عمار إلى وزارة الثقافة لنقسم على المصحف الشريف بأن جمعة اللامي كان سجينًا سياسيًا، وهل هناك من عاقل ينكر نضال فارس الجنوب، الشيوعي الجسور المهاب، في حياته ومماته، وما أهيبك اليوم يا سيدي، وما أهيب جثمانك وأنت تغادر الشارقة لتسكن بجوار معشوقك أمير التقى والعدالة والحكمة، أبي الحسن علي ( ع).