جمعة اللامي الذي كتَبَنا

نرمين المفتي أجد كلماتي عاجزة عن كتابة تلويحة وداع لجمعة اللامي، الذي تعرفت إليه شخصيًا وأنا طالبة جامعية وهو قامة عراقية، كاتبًا وصحفيًا وروائيًا وقاصًا. وكنت قد قرأت له (من قتل حكمة الشامي) و (أليشن).. التقيته مرتين في مناسبتين ثقافيتين، وحين أردت لقاءه للمرة الثالثة، ليحدثني عن تجربته في السجن، التي أنتجت ما قرأته، علمت بأنه غادر العراق.. فيما بعد سأقرأ حوارًا معه أجراه الكاتب والروائي المصري خليل الجيزاوي، المنشور في الموقع الرسمي لجمعة اللامي على الإنترنت، قوله "منذ تلك السنوات اخترت بعمق أن أكتب في شأن مفهومي للحرية، والإنسان المضطهد من الجلاد (الرسمي) والجلاد (المناضل).".. و"تلك السنوات" هي السنوات التي أمضاها في السجن، وكان يقصد بالجلاد (المناضل)، كما جاء على لسانه عزل السجناء اليساريين له في السجن ومحاولة سجين قتله لأن "قياديا في الحزب الشيوعي العراقي، استمر بتثقيفه المتواصل ضدي باعتباري أنقل وباءً معاديًا للشيوعية." وفي السجن سنة 1964 قدم استقالته مكتويًا من هذا الحزب. وغادر العراق، هذه المرة من جلاد السلطة في 1979 واستقر في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ 1980 وحتى رحيله في العاشر من شهر نيسان الجاري. استمرت قراءاتي له، فيما بعد، وأنا في السنة التحضيرية للماجستير، وفي درس (تحليل المضمون)، أتعرف على مصطلح (الميتا- تاريخ) و(الميتا-سرد)، ونعرف أن الـ (ميتا) تعني (ما وراء)، واكتشف أن اللامي يكتب في ما بعد التاريخ والسرد، ويعيد بناء الزمن عبر صوته ومن عرفهم، جلادين وغيرهم. ودائمًا كانت هناك عوالم لا تغادره ونشعرها في منجزه كله، عوالم مترابطة بطفولته، تلك السنوات التي شكلت وعيه كشخص وكاتب، وخصوصًا تأثير مشاهد عاشوراء، التي قال عنها "عاشوراء صنعت خيالي قبل أن أكتب، رأيت الحسين شهيدًا، لا لأن سيفًا قطع رأسه، بل لأن الناس صمتوا عن ذبحه في كل عصر." لتكون إحدى المحطات المفصلية في تكوين رؤيته للأحداث وحسه السياسي. ومن ثم مدينته العمارة، ومدينته التي استقر فيها بغداد، والعراق الذي غادره مرغمًا. لقد كانت هذه العوالم جزءاً من روحه، التي تتجلى في سيرته (المقامة اللامية)، وثلاثيته في التراجيديا العراقية، اللتين أراهما، شخصيًا، إكمالًا لمشروعه السردي الخاص به، كأشمل ما يكون: كتابة ضد التزييف، ضد التصالح مع الرواية الرسمية، وضد اللغة المعلبة. كانت كلماته مزيجًا من الألم والرؤيا، وكأنّه يريد أن ينتزعنا من غواية النسيان. واستمرت روحه الحزينة، خاصة حين ألمّ به المرض، ولابد عليه ان يكون في المستشفى ثلاث مرات أسبوعيًا، لسنوات طوال، والخبيث الذي هاجمه مؤخرًا وتسبب بوفاته. كان يصف كل زيارة إلى المستشفى بتجربة موت، "كثيرون.. كثيرون جدًا، لم يجربوا حالة قريبة جدًا من الموت - ولذلك تراهم لاهين، استعراضيين -، أما الذي يجرب الموت 3 مرات أسبوعيًا بخطأ من ممرضة (إبرة بها قليل جدًا من الهواء.. تميته في الحال)، فهذا إنسان آخر- ليس عنده وقت. ولا مزاج لكلام المقاهي، ولا استعراضات البارات، ولا بطولات الأحزاب، ولا هيجان الطوائف، ومزامير الأبواق الكبرى - إنه يقف وحيدًا مع نفسه في كل لحظة - وهنا الوعي الكوني." وبهذا الوعي قال "الكلمات وحدها قادرة على حمل روح الإنسان عبر الزمن." لذلك استمر كاتبًا حتى قبيل انتكاسته الصحية الأخيرة. في آخر لقاء لي معه في الشارقة، كان تعبًا، لكنه مفعم بالأفكار ومشاريع عمل، وتذكرت معه حديثه معي حين أصبحت رئيسة تحرير المجلة وهو كاتب عمود فيها. وسلامًا جمعة اللامي وأنت تبدأ رحلتك الأخيرة، في أمان الله يا من كتَبَنا لئلا نموت صمتًا.