100%
حميد قاسم
(اليشن)، كانت صدمتي الأولى، أنا طالب المتوسطة الذي يحب حصة التعبير والإنشاء، وحصة الخط والإملاء، وحصة المطالعة بالتأكيد، أتذكر تمامًا ساعة اقتنيتها من مكتبة النهضة العربية في الباب الشرقي.
من جمعة اللامي تعرفت على التستري والحلاج وغريب المتروك وسافرة عبد المسيح وعزيز السيد جاسم، صدمة القسوة والسحر معًا، العنف والسجون الصحراوية والغثيانات الكبرى وكوابيس الأحلام العراقية، هذه الصدمة سحرتني وجعلتني مأخوذًا بعالم غريب، كنت أوشك أن أقحم نفسي فيه، السياسة والكتابة وما بينهما من سجون ومعتقلات، وشراسة التعذيب الوحشي لكسر شوكة المختلف فكريًا وسياسيًا.كنت أراه من بعيد، في نهارات الصالحية، خارجًا من الإذاعة والتلفزيون، أو من مبنى ألف باء، وحتى شارع الرشيد، حيث تقبع مجلة (وعي العمال)، فيما أراه مساءً كل أربعاء وهو يغادر أمسية أدبية ضمن منهاج اتحاد الأدباء.
ثم عرفت أن جمعة اللامي من أبناء المدينة التي كانت تصدر الشعراء والمسرحيين والقصاصين ولاعبي كرة القدم إلى بغداد، ولا تستقبل منها سوى الازدراء والكراهية!!
هذه كانت معرفتي الأولى بالقاص والصحفي البارع جمعة اللامي، قبل أن أتعرف عليه بمبادرة شخصية مني ذات نهار قريبًا من مقهى إبراهيم أبو الهيل (المعقدين)، التي استمرّت حتى رحيله الموجع في السابع عشر من نيسان 2025.
نصف قرن من المودة والمواقف النبيلة واللطف والعذوبة - وحتى الاختلاف- مع أبي عمار، الودود المبتسم دائمًا، كنت أسمّيه (قائدنا إلى جنة السومريين)، وكان يفرح ويقول معترضًا ومصححًا: "لا، تلك جنة ميشان يا صديقي!" وفعلًا، فقد كانت روح ميشان، أو ميسان، أو العمارة، أو الكرخاء، بطلة أعماله كلها، من (اليشن) إلى (الثلاثيات)، إلى (مجنون زينب)، و(من قتل حكمة الشامي)، و(المقامة اللامية)، و(عيون زينب). وأزعم أن لا أحد كشف تناقضات المثقف الستيني وملابساته النفسية والفكرية مثل جمعة اللامي في قصصه القصيرة، التي كانت تدور بين قاعات سجن نگرة السلمان، والعمارة، والحلفاية، والمدينة التي اخترعها وجعلها مسرحًا لأحداث قصصه القصيرة تلك، وأعني (ديرة حلم العمر)، الديرة التي يسعى إليها غريب المتروك، وتبدو له قريبة المنال، لكنه دائمًا يخسرها، فتبتعد وتتوارى كلما أوشك على دخولها ومعرفة أسرارها، لم يكن غريب المتروك سوى جمعة اللامي في نشدانه الاستقرار..!
جمعة اللامي مقاليّ من الطراز الفذ، كاتب عمود يومي لا ينضب مداده ولا مواده، و (أسطة)، في تحرير الأخبار، فهو مدير تحرير كبريات صحف الخليج، وهو (ديسكمان) جريدة الاتحاد، الأول الذي لا يبارى.
منتصف السبعينيات قدم معهد الفنون الجميلة مسرحية (انهض ايها القرمطي هذا عصرك)، لمؤلفها طارق عبد الواحد، ومخرجها ليث الأسدي، وكان أن كتب القاص حسب الله يحيى عرضًا نقديًا يتناول العمل، نشرته مجلة ألف باء، التي كان (اللامي) سكرتير تحرير فيها، وهنا قامت قائمة خير الله طلفاح، خال (السيد النائب)، الذي نشر مقالًا تحريضيًا ضد كادر المسرحية، ومن كتب عنها، ومن نشر له في ألف باء، وكان المقصود جمعة اللامي، متهمًا إياهم بالشعوبية ومعاداة العروبة والإسلام في عراق البعث العربي الاشتراكي. وبعد التحقيق، أحيل الصحفي جمعة اللامي، ومعه المؤلف طارق عبد الواحد الخزاعي، والمخرج ليث الأسدي، والصحفي حسب الله يحيى، إلى محكمة الثورة، بكتاب مجلس قيادة الثورة رقم 8 في 26/6/1978 وبالدعوى رقم 399/ج/ 1978. وفعلًا جرى التحقيق في جهاز أمني بإشراف مباشر من سمير الشيخلي.. هنا قرر (اللامي)، أن يغادر البلاد في رحلة جديدة للبحث عن (ديرة حلم العمر)، رحلة استغرقت من عمره 46 عامًا قبل أن يعود إلى (ديرته)، محمولًا على الأكتاف، (غريب)، الذي تركه رفاقه وحيدًا، غريبًا، عاد مكللًا بالورد ومحبة الناس إلى ديرة حلم العمر.