100%
محمد خضير
لم اكتشف شخصية جمعة اللامي- أقصد روحَه الكامنة وراء نصوصه- حتى لقائي الثاني به في محلّ إقامته بإمارة الشارقة العام 2006. زرتُه أول مرة في مقرّ عمله في مجلة (وعي العمال) الناطقة عن نقابات العمال، في بغداد العام 1978. وفي تلك الزيارة أبيتُ أن يلتقط مصوّر المجلة صورةً لي، فأثار ذلك التمنّع عجبه وعجبَ المحرّرين الحاضرين في غرفة المجلة.
وفي مساء اليوم نفسه استضافني جمعة في أحد النوادي الاجتماعية الليلية، وقد التحقت بجلستنا ثلةٌ من أشهر أدباء بغداد ومحرّري صحفها آنذاك. وفي نهاية الجلسة، تركنا الأصحابُ وحيدين، وانفضّوا في وقت متأخر من الليل. تحيّرتُ بنفسي، قبل أن أتحيّر بإيصال جمعة إلى باب سيارة الأجرة التي أقلّته إلى بيته في مدينة الثورة. تردد على لسانه اسم امرأة أحبّها، وربما كانت ضمن مَن شاركنا أمسية النادي تلك. كان الاسم واحدًا من النساء اللاتي يتردد ذكرهن في قصصه مرارًا وتكرارًا بأسماء مختلفة. ثم ذاب الاسم المعشوق رويداً مع مَن ذاب من أسماء "الديرة" الحالمة بعالم فضي أو طيني، سواء بعد تحطم الآمال، واختلط بأسماء الماضي المنحسر كغروب ثقيل على أطلال المدينة القديمة. بل أزعم أن كل الأسماء النسوية التي عرفها جمعة اللامي، اجتمع في اسم واحد دالّ على الروح المثالية التي اقترن بها، وطار معها إلى الصوب الثاني من البحر، أم عمّار، وحدها لا سواها.
يوم ساجلتُه في حوار طويل، نُشر تحت عنوان (محاورات زينب)، أشار جمعة إلى اسمٍ نسويّ مثالي آخر، هو اسم أمّه، التي كتبَ عنها في إحدى قصصه: "مريم بنت مطر، هي أمّي. وإذ أستعيدُها الآن من حضرة الموت لأتحدّث معها- يا شقيقة روحي- في حضرتكِ، فلأنّ روحها حلّت فيكِ، فأنتِ الآن أمّي وحبيبتي وأختي، أنتِ سمائي التي ألتحِفُ، وأرضي الطهور التي أتوسّدُ، وأنتِ أيضًا بساتين الرضا وغابات الشوق التي لن تفنى."
يعود هذا الكائن- المتعدّد الأسماء- إلى موطنه اليوم، جسدًا في تابوت، متبوعًا بتلك الأرواح المتسائلة عن حقوقها في نصوصه المهدورة للغربة والعذاب. ولا أظنُّنا نمتلك جوابًا شافيًا لسؤالها غير أن نُرِيَها "الوشمَ" العميق الذي تركه "منقعُ العذاب" على ذراعه. إنه وشم "الأبطال" المقهورين رغم أنفسهم، والسابقين غيرَهم إلى اكتشاف "الثلاثيّات" السردية المعبّرة عن كلّ الذكريات الحميمة الماضية، وعن كلّ الأسماء المصهورة في اسمٍ وحيد لا نجرؤ على نُطقه إلا بتهيّب كبير. مبارك للتراب الزكيّ باحتضان الاسم "الجامع" لكلّ الأسماء.