100%
"الشبكة العراقية"
تصوير / وكالات
عبّرت الأوساط العراقية الدينية والسياسية عن حزنها العميق لرحيل قداسة البابا فرنسيس، الذي لطالما اعتبرته البلاد صديقًا قريبًا ورسولًا للسلام. وعلت أصوات النعي تقديرًا للبابا الذي كسر عزلة العراق بزيارته التاريخية في عام 2021.
أعلن الفاتيكان رسميًا، صباح يوم الاثنين 21 نيسان 2025، وفاة قداسة البابا فرنسيس عن عمر ناهز 88 عامًا، بعد تدهور حالته الصحية خلال الأيام الماضية.
رسالة التعزية الصادرة من مكتب المرجع الأعلى السيد علي السيستاني (دام ظله) جاء فيها "تلقّينا بأسف عميق نبأ رحيل الحبر الأعظم البابا فرانسيس بابا الفاتيكان، الذي كان يحظى بمكانة روحية رفيعة لدى كثير من شعوب الأرض واحترام بالغ لدى الجميع، لما قام به من دور مميّز في خدمة قضايا السلام والتسامح، وإبداء التضامن مع المظلومين والمضطهدين في مختلف أرجاء العالم."
زيارة تاريخية
ولا تزال الزيارة التاريخية التي قام بها البابا فرنسيس إلى العراق في عام 2021 تتردد أصداؤها في وجدان العراقيين، لما حملته من رمزية عميقة ورسائل قوية عن السلام والوحدة والتعايش.
فقد كانت أول زيارة من نوعها لرأس الكنيسة الكاثوليكية إلى العراق، وشملت جولة في مناطق دمرتها الحرب والعنف الطائفي، من بينها مدينة الموصل التي كانت تحت سيطرة داعش الإرهابي.
هناك، دعا البابا إلى إنهاء العنف، مؤكداً أن "السلم أقوى من الحرب" وأن "العراق سيبقى دائمًا في قلبه". كما التقى زعماء دينيين مسلمين ومسيحيين، وأرسل رسالة واضحة بضرورة العيش المشترك ومكافحة الفساد وحماية الأقليات، ولاسيما المسيحيين.
مهد الأديان
وقف البابا عند زقورة أور، تحت سماء ذي قار، حيث يُقال إن النبي إبراهيم ولد قبل آلاف السنين. هناك لم يخطب فقط، بل صلى. صلاته لم تكن كاثوليكية بحتة، بل إنسانية الطابع، شاملة، حاملة رسالة مفادها أن أبناء إبراهيم، من مسلمين ومسيحيين ويهود، قادرون على اللقاء رغم ما فرّقتهم السياسة.
قال يومها: "من هذا المكان، حيث وُلد الإيمان، نُعلِن أنّ الله رحيم، وأن أعظم خطيئة هي الكراهية."
ربما كانت مشهديّة البابا في الموصل، وهو يجلس على كرسي أبيض أمام كنائس مدمّرة، من أكثر صور الزيارة تأثيرًا. تحدّث وسط الخراب عن المغفرة والرجاء. رفع صلاته لأرواح الضحايا، ووجّه تحية لأهل المدينة الذين لم يستسلموا، قائلًا: "الأخوّة أقوى من القتل، والرجاء أقوى من الموت."
سيدة النجاة
في كاتدرائية "سيدة النجاة"، التي شهدت مجزرة مروّعة في 2010، جلس مع عوائل الشهداء، بكى بصمت، واستمع لشهادات الناجين. قدّم قدّاسًا مهيبًا في ملعب "فرانسو حريري" بأربيل، ليختم جولته برسالة خالدة: "العراق سيبقى حيًّا، لأنه يحمل في ترابه رجالًا ونساءً يعرفون معنى الصبر، ويصنعون السلام من الألم."
لقاؤه بالمرجع الأعلى السيد علي السيستاني في النجف، حمل رمزية تتجاوز اللحظة. جلوس زعيم كاثوليكي مع المرجع الشيعي الأعلى على طاولة واحدة، بلا كاميرات، بلا بهرجة، كان إعلانًا صامتًا، لكنه مدوٍ، بأن الحوار الديني ليس مستحيلاً، بل ضرورة.
البابا قال بعدها: "عندما يصغي القلب للآخر، يصبح الإيمان جسراً، لا سوراً. "
غزة والإنسانية
لم تكن فلسطين غائبة عن قلبه. في أكثر من مناسبة، أطلق البابا صرخته من أجل غزة، مندّدًا بالقصف ومعاناة الأطفال. لم يتحدث بلغة السياسة، بل بلغة الرحمة. دعا لوقف العنف، وكرر مرارًا:
"الصراع لا يُحَل بالقوة، بل بالاعتراف بالإنسان في الآخر."
فرنسيس، واسمه الأصلي "خورخي ماريو برغوليو"، أرجنتيني من أصول إيطالية. لم ينسَ يومًا حيّه الشعبي في بوينس آيرس، ولا قطار المترو الذي كان يستقله قبل أن يصبح كاردينالًا. لا يحب المظاهر، ويعيش في دار ضيافة داخل الفاتيكان بدل القصر الرسولي.
رفض ارتداء الأحذية الحمراء التقليدية للبابوات، متمسكًا بحذائه الأسود البسيط، وحقيبته الجلدية القديمة التي يحملها بنفسه، قائلًا: "فيها الكتاب المقدس، ومُسكّن للصداع... لا أكثر."
حتى موته، لا يريده أن يكون استعراضيًا. قال: "أريد أن أُدفن ببساطة، بلا تابوت ذهبي، بلا ضجة."
يعيش مع سلفه
في سابقة فريدة، عاش البابا فرنسيس سنواته الأولى في الفاتيكان مع البابا السابق بنديكتوس السادس عشر، الذي استقال طوعًا. لم تكن العلاقة شكلية، بل قائمة على الاحترام والاعتراف، في وقت كان فيه العالم يعاني من صراعات حول السلطة والشرعية.
خاتمة: البابا الذي لم يرفع صوته... بل رفع ضمير العالم في آخر كلماته الرسمية التي ألقاها قبيل نهاية عام 2024، قال:
"أتمنى أن يحمل العام الجديد سلامًا لكل بيت، خاصة في الأماكن التي نسيتها العدالة. أصلي من أجل غزة، من أجل العراق، من أجل كل إنسان يبحث عن وطن في وجه العنف."
فرنسيس، هو البابا الذي دخل التاريخ لا من بوابة السلطة، بل من بوابة الإنسان. رجل ينتعل حذاءً متواضعًا، لكنّه يمشي بثقة نحو قلوب الناس، ويذكّرهم في كل صلاة بأن الحب لا يزال ممكنًا، حتى في عالم يتألم.