زياد الهاشمي
قدمت لنا آسيا، طوال العقود الماضية، العديد من التجارب التي أثبتت فيها أن التخلص من آفة الفساد، والتضييق عليها، هما أهم المفاتيح الرئيسة في انطلاق النهضة الاقتصادية، وأنها عامل جوهري لجعل الحكومات ناجحة ومنتجه وكفوءة.
مع بدء انتقال الاقتصاد الصيني من الاعتماد، شبه المطلق، على الزراعة، والسير في ركب المبادئ الشيوعية الكلاسيكية، إلى الصناعة والإنتاج ضمن نموذج اقتصادي هجين، يمزج بين الضوابط الاشتراكية والمرونة الرأسمالية، بدأت القبضة الحديدية على الاقتصاد الصيني تلين، وبدأ معها نمو وتغلغل الفساد داخل مؤسسات الدولة ومعظم القطاعات الاقتصادية، حيث تحولت العقود الحكومية والمشروعات الضخمة وصفقات الأراضي إلى مساحات خصبة للرشاوى والمحسوبيات، الأمر الذي انعكس سلبًا على الأداء الحكومي والاقتصادي، ما أدى إلى تدهور الخدمات العامة، وسوء توزيع الثروات، وارتفاع تكاليف الأعمال الصناعية والتجارية، وهذا ما جعل البيئة الإنتاجية مثقلة بالأعباء.
فجوة اجتماعية ومع اتساع هذه الظاهرة، وصل الفساد إلى مستويات عليا داخل الحزب الشيوعي الحاكم، وكبار المسؤولين، ورجال الأعمال المرتبطين بهم، ما أوجد فجوة اجتماعية ومالية هائلة بين طبقة صغيرة من الأثرياء والمسؤولين النافذين وملايين المواطنين والعمال، الذين ظلوا يعانون من تدني الخدمات وغياب العدالة. هذا الانقسام ولّد حالة من الكراهية الشعبية تجاه النخبة الحاكمة، وأشاع شعورًا بأن النظام بات أسيرًا لشبكات فساد مترابطة تهدد استقرار الدولة نفسها. وعندما وصل الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السلطة، عام 2012، كان يدرك أن الفساد لم يعد مجرد ظاهرة عرضية، بل تهديد وجودي للحكومة واستقرار الاقتصاد الصيني، وهذا ما شجعه على تبنى ستراتيجية صارمة تحت شعار محاربة "النمور والذباب"، أي استهداف كبار المسؤولين والفاسدين من التجار والصناعيين على حد سواء. لتنفيذ ذلك، عزز الرئيس الصيني دور اللجنة المركزية للتفتيش الانضباطي واللجنة الوطنية للرقابة، ومنحهما صلاحيات واسعة في التحقيق والمحاسبة، لتصبحا بعد ذلك الذراع الحديدي الذي يلاحق الفاسدين، مهما كانت مراكزهم السياسية والاقتصادية. وتشير الإحصاءات الرسمية الى إحالة عشرات الآلاف من المسؤولين ورجال الأعمال إلى التحقيق، بينما وصل عدد من طالتهم العقوبات الإدارية، أو الحزبية، إلى نحو 889 ألف شخص، كما شهدت الصين، خلال السنوات العشر الأخيرة، محاكمات علنية لقيادات بارزة في القطاعين الاقتصادي والحكومي، من بينهم رؤساء مصارف حكومية وشركات كبرى وضباط كبار.
فضائح علنية الجانب اللافت في هذه الحملة ضد الفساد كان الجمع بين العمل الأمني والقضائي والإعلامي، إذ لم يتردد الرئيس الصيني في تحويل بعض القضايا إلى فضائح علنية عبر وسائل الإعلام الرسمية، في خطوة تهدف إلى ردع الآخرين وبث رسالة واضحة مفادها أن لا أحد فوق القانون.
وبالرغم من الانتقادات التي وُجهت لهذه الحملة، واعتبار البعض أنها استُخدمت لترسيخ قبضة الرئيس الصيني وإقصاء منافسيه، إلا أن النتائج على الأرض كانت ملموسة، حيث أشارت تقارير الشفافية الدولية إلى أن غالبية المواطنين الصينيين وجدوا أن الفساد في تراجع كبير، وأن الحكومة تبذل جهودًا فعالة لمكافحته، كما أن مستويات الرشوة في بعض القطاعات الحيوية، مثل الصحة والتعليم، انخفضت بشكل ملحوظ، وأصبح الموظفون أكثر حذرًا في تعاملاتهم اليومية. إضافة الى الجانب العقابي، شهدت الصين إصلاحات تشريعية ومؤسسية شملت تعديل القوانين المرتبطة بالرشوة وتعزيز الرقابة على العقود الحكومية، إضافة إلى تطوير أنظمة تكنولوجية متقدمة لتتبع حركة الأموال داخل مؤسسات الدولة.
ثقة المستثمرين هذا التحسن المتسارع في ملف القضاء على الفساد في الصين أسهم بشكل كبير في تعزيز ثقة المستثمرين وتهيئة بيئة أفضل للأعمال والتنمية والتوسع الاقتصادي، بالتوازي مع نجاح الصين في تحقيق إنجازات في قطاعات أخرى، مثل القضاء على الفقر وتحسين الخدمات العامة لمئات الملايين من السكان، ما أدى إلى فتح المجال لانطلاقة اقتصادية وصناعية كبرى، جعلت من الصين قطبًا اقتصاديًا عالميًا، يقف اليوم ندًا للولايات المتحدة في ميادين التجارة والتكنولوجيا والاستثمار والتسليح.
غير أن التجربة الصينية ليست النموذج الوحيد الناجح في مجال مكافحة الفساد. ففي سنغافورة، مثلًا، اعتمدت الحكومة، منذ الاستقلال في ستينيات القرن الماضي، على بناء مؤسسات قوية وشفافة، فأنشأت، خلال مراحل مبكرة، مكتب التحقيق في ممارسات الفساد، الذي يمتلك استقلالية وصلاحيات واسعة للتحقيق مع أي مسؤول، مهما كان منصبه. إلى جانب ذلك، فقد رفعت الحكومة رواتب الموظفين الحكوميين والوزراء إلى مستويات عالية، لتقليل إغراءات الفساد، وربطت الأداء الوظيفي بالترقيات والمكافآت، ما أسهم في خلق بيئة إدارية نظيفة جعلت سنغافورة من أكثر الدول نزاهة في العالم، وفق مؤشرات الشفافية الدولية، وهذا ما هيأ لها الظروف للتحول إلى أحد أهم المراكز المالية والتجارية العالمية.
خطط وطنية أما في ماليزيا فعملية مكافحة الفساد ارتبطت بشكل مباشر بمسار التنمية الاقتصادية، حيث عملت الحكومة على خلق مناخ استثماري جاذب لرؤوس الأمــــــــوال، يعتمد على الشفافية، ونظافة النظام، وإطلاق خطط وطنية لمكافحة الفساد، مثل NACP 2023 – 2019 و NACS 2028 – 2024، التي تعتمد على برامج تنفيذية ذات أهداف محددة تمتد لمدة أربع سنوات لتعزيز نزاهة بيئة الأعمال، عبر إصلاح أنظمة المشتريات والعقود الحكومية، والتضييق على الرشا، وتوسيع نطاق المساءلة والمعاقبة. وقد أعطت محاكمة شخصيات بارزة في قضايا فساد كبرى (مثل قضية 1MDB) إشارات واضحة للأسواق بأن الحكومة الماليزية قادرة على مواجهة الفساد، حتى لو كان في أعلى المستويات، ما أسهم في تحسين الثقة كثيرًا بإجراءات الحكومة داخل بيئة الأعمال، وعزز -بعد ذلك- من تصنيف ماليزيا في مؤشرات التنافسية، وزادت ثقة المستثمرين، لاسيما في قطاعات التكنولوجيا والصناعات التحويلية.
إرادة سياسية إن الدرس البليغ من التجارب، الصينية والسنغافورية والماليزية، في مكافحة الفساد، لا يقتصر على الأساليب والأدوات، بل يتجسد في الإرادة السياسية الصلبة، التي وضعت مكافحة الفساد على رأس الأولويات، وربطت بين أهداف التنمية الاقتصادية وعملية محاصرة الفساد والقضاء عليه. هذه الأمثلة تضع أية دولة تبحث عن النهضة الاقتصادية أمام معادلة واضحة، لا يكفي فيها سن القوانين، أو إنشاء الهيئات الرقابية، إذا لم تتوافر الإرادة بالنهوض بالاقتصاد من خلال مكافحة الفساد، فلا يمكن تحقيق تنمية حقيقية مستدامة في ظل فساد يلتهم الثروات ويقوّض الثقة بين الدولة والمجتمع، وما لم تتوافر تلك الإرادة، فإن الفساد سيظل عائقًا أمام كل أهداف الإصلاح الاقتصادي والتنموي، ولن تفلح الجهود في إحداث نهضة اقتصادية حقيقية.