كيف يعيد التضامن اختراع العراق في كل مرة ؟

تحقيقات

كيف يعيد التضامن اختراع العراق في كل مرة ؟
100%
د. سعد سلوم يُعد العراق نموذجًا بارزًا للتعددية في الشرق الأوسط، إذ يضم فسيفساء بشرية غنية من القوميات، مثل العرب والكرد والتركمان والآشوريين، ومن المسلمين والمسيحيين والإيزيديين والصابئة.. الخ. وظلت البلاد تاريخيًا مركزًا للتعايش الحضاري. ففي بغداد العباسية، عاش المسلمون والمسيحيون واليهود جنبًا إلى جنب، وشاركوا في صنع حضارة إنسانية مشتركة. في العصر العثماني، وبرغم التراتب الطائفي، بقيت الأسواق والمناسبات العامة ساحات للتعاون والتكافل. ومع تأسيس الدولة الحديثة عام 1921، برز خطاب وطني جامع عبّر عنه الشاعر محمد مهدي الجواهري: "حييتُ سفحك عن بعد فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتين" هذا النص الشعري لم يكن مجرد غزل بنهر، بل رمز لوحدة الأرض والناس حول هوية وطنية مشتركة تتمحور حول النهر الخالد. تجاوز الانقسامات وعلى الرغم مما مرّ به العراق من أزمات وصراعات وحروب، ظل المجتمع العراقي قادرًا على إظهار أشكال مختلفة من التضامن، ما ساعده على تجاوز الانقسامات. وكما يقول عالم الاجتماع علي الوردي في كتابه (لمحات اجتماعية): المجتمع العراقي يقوم على تناقضات صعبة بين البداوة والحضارة، لكنه في الأزمات يوحِّد مواقفه، ويظهر فيه من التضامن ما يعجز المراقب عن توقعه. إذن، فإن مفهوم التضامن، في السياق العراقي، هو الرابط الذي يجمع الجماعات في مواجهة المخاطر، أو في السعي لتحقيق أهداف مشتركة. ويمكن قراءته كقيمة أخلاقية واجتماعية تتجلى في العشيرة، والدين، والوطن. في هذا السياق، يرى الراحل فالح عبد الجبار أن: المجتمع العراقي يمتلك شبكات تضامن أهلي واسعة، لكنها تُختطف حين يجري توظيفها في مشروع سياسي طائفي. التضامن الأهلي إذن قوة محتملة إذا ما أعيد بناؤه على قاعدة وطنية (الدولة والمجتمع المدني في العراق، 2010)." هوية وطنية للتضامن أشكال مختلفة يمكن تمييزها بوعي، منها التضامن العشائري. وقد كتب علي الوردي في دراسته بطبيعة المجتمع العراقي عن العشيرة بوصفها مؤسسة اجتماعية تُغطي غياب الدولة الحديثة، وهي ملاذ للفرد وقت الشدائد، هذا البعد لا يزال فاعلًا، حين تلجأ المجتمعات إلى العشائر لحل النزاعات واحتواء الأزمات، على الرغم من الصور النمطية عن النزاعات العشائرية التي تظهرها بمظهر غير حضاري ومهدد لسيادة الدولة. كذلك يمكن الحديث عن التضامن الديني، الذي يتجلى في تداخل الطقوس والشعائر، فالمسيحيون يشاركون جيرانهم المسلمين في عاشوراء، والمسلمون يزورون الكنائس في أعياد الميلاد، في مشهد وصفته، في إحدى مقالاتي، تحت عنوان (في العراق: المسيحيون يصومون في رمضان والمسلمون يحتفلون بالكريمس)، كما سبق أن كتب عن تجذّر هذا التضامن المؤرخ عبد الرزاق الحسني في كتابه (تاريخ الوزرات العراقية)، بوصفه تعبيرًا عن "تقاليد ضاربة في عمق الحياة الاجتماعية العراقية". ولا ننسى -في هذا السياق- التضامن في الأزمات، الذي يكشف عن نقاء التضامن في تعبيره الجمعي، أثناء نزوح الملايين بعد اجتياح تنظيم داعش (2014)، إذ فتحت مدن الجنوب أبوابها لاستقبال النازحين من الموصل والأنبار. وكذلك فعلت مدن كوردستان العراق، وقد وصف فالح عبد الجبار هذه اللحظة في عام 2016 بأنها: "أعلى درجات التضامن الأهلي العابر للطائفة، دليل على أن الهوية الوطنية كامنة تحت سطح التصدعات." بناء الثقة وأخيرًا، أشير إلى ما يمكن أن نطلق عليه التضامن المدني، فخلال احتجاجات تشرين (2019)، تجاوز الشباب العراقي الهويات الفرعية لصالح هوية وطنية جامعة، وصفتها في إحدى مقالاتي بأنها: "ولادة جديدة للهوية العراقية من تحت الرماد، حيث اكتشف الشباب معنى التضامن العابر للطوائف." إذا أردنا لهذا التضامن أن يتمأسس في لحظة وطنية دائمة، أعتقد أننا يجب أن نفكر في مواجهة التحديات التي تبرز في كل منعطف، ولعل أبرز هذه التحديات الطائفية السياسية، التي يشخص الباحث فالح مهدي تأثيرها الهدام بقوله: "حين تتحول الطائفة إلى دولة، يتفتت المجتمع وينكسر التضامن الوطني لصالح التضامن الضيق." كذلك فإن ضعف الدولة، وغياب المؤسسات الفعّالة، يجعل الناس يعودون إلى الولاءات التقليدية. فضلًا عن أن الأزمات الاقتصادية تُضعف الروابط وتزيد الانقسامات. والتفكير في تحدي إعادة بناء الثقة في فترة ما بعد التحرر من تنظيم داعش يستلزم التحرر من آثار النزاعات المسلحة والإرهاب التي زرعت الخوف والشك بين المكونات العراقية المختلفة. قوة التنوع إن بقاء العراق، كما أشار حسن العلوي ذات مرة، مرهون بقدرة مجتمعاته على إنتاج تضامن جديد يقوم على المواطنة، لا الطائفة. ومن هنا نؤكد على أهمية إصلاح المناهج التعليمية لتعزيز الهوية الوطنية، ودعم منظمات المجتمع المدني كوسيط لنشر ثقافة التسامح، وبناء خطاب سياسي جامع يعترف بالتنوع كمصدر قوة، فتنوع العراق ليس لعنة، بل هو إمكانية لبناء وطن يقوم على التضامن بين جماعاته المختلفة، شرط أن يُدار هذا التنوع بوعي سياسي يبتعد عن المحاصصة. لم يعد التضامن بين المجتمعات في العراق ترفًا بل ضرورة وجودية. فرغم الانقسامات السياسية والطائفية، فإن تاريخ العراق يشهد أن التضامن الأهلي قادر على الظهور عند الأزمات الكبرى. وكما قال الراحل فالح عبد الجبار، فإن "المجتمع العراقي لا يموت، بل يعيد اختراع نفسه عند كل انهيار." وهي حقيقة تفسر استمرار العراق رغم كل التحديات.

إقــــرأ المــــزيــــــــد

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال
تحقيقات

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي
تحقيقات

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي

حياة بلا تواصل اجتماعي..  هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟
تحقيقات

حياة بلا تواصل اجتماعي.. هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟
تحقيقات

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي
تحقيقات

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"
تحقيقات

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"

أبرز الأخبار

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

قصة إعدام الفنان صباح السهل

قصة إعدام الفنان صباح السهل

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج