100%
عبد المنعم الأعسم
في كواليس عشاء على شرف مهرجان للشعر العربي، أقيم في صنعاء، قدم نزار قباني نفسه الى شاعر اليمن الكبير (البصير) عبد الله البردوني قائلًا "أنا نِزار قباني"، فرد عليه البردوني ببديهية سريعة "قل نَزار بفتح النون، ولا تقل نِزار بكسره، فان الأخيرة تعني الشحيح." ولدى اليمنيين ذخيرة مذهلة للتعبير البداهي، ففي مبادرة عربية حلّ في صنعاء، في الستينيات من القرن الماضي، وفد من الخبراء العرب لمساعدة اليمنيين على مكافحة الجراد، لكن بعد فوات الأوان، وكان قد أولمهم رجل الدولة في قصره، وأثار استغراب أعضاء الوفد أن صحنًا كبيرًا من الجراد المطبوخ وضع على المائدة، وأن مضيفهم ابتدأ بتناول اللقمة الأولى منه، في تعبير مهذب عن لا جدوى هذه المبادرة.
وفي كتابه (رحلة أثرية الى اليمن)، رصد الدكتور أحمد فخري مصادر بداهات اليمنيين، وأعادها إلى ثقتهم المفرطة بالنفس، منذ أن فرضوا سيطرتهم على خط القوافل التجارية من بلدة الجوف إلى بلاد الشام، فيما فرضوا ثقافتهم وإبداعاتهم الصناعية في زمن كانت الأمم تغط في ظلام دامس، الأمر الذي عبّرت عنه آثار مدن قرنو وقتبانو ووائل، حتى القرن العاشر قبل الميلاد، حيث شيدت مملكة سبأ العريقة، التي عُرفت بمجالس المشورة والجدل، وتمثل نقوشها الآن مفاتيح معارف للدخول إلى مغاليق تاريخ الشرق وفصوله الأكثر مثارًا للجدل، حين انهارت المملكة اليمانية الأولى تحت سنابك خيول الممالك المجاورة، ورحل ملوك وجاء ملوك غيرهم. واللافت، أنه منذ انهيار سد مأرب، قبل نحو ثلاثة آلاف سنة، دسّ اليمنيون بداهاتهم العجيبة في الحرب وسيلة لا بديل عنها للإجابة على السؤال المتعلق بالوصول الى السلام والرخاء، وأحالوا دواعي هذا الخيار الأبدي إلى حكمة يتداولونها جيلًا عن جيل "لابد من صنعا وإن طال السفر."
ويتمتع اليمنيون باستراحات، بين كل حرب وحرب، فيلقون بالخصومات الى ما وراء ظهورهم، وأحيانًا، وبخاصة في الحروب المحلية الطاحنة، يعتمدون هدنة غير مكتوبة، وليست مسبوقة بمفاوضات، يعودون بعدها وفي وقت واحد إلى فتح النيران، بعضهم على بعض، بل إنهم كانوا (في حرب الشمال والجنوب في مطلع السبعينيات) يلقون سلاحهم جانبًا في هدنة غير مكتوبة لساعات عدة، يعودون بعدها إلى القتال، أخذًا بالاعتبار أن اليمنيين خاضوا في القرون الغابرة حروبًا معقدة، الكل يحارب الكل.
وقد أعطت البداهات اليمنية أسماء أكثر تعقيدًا لتلك الحروب، كوسيلة لحل الخلافات، أو وسيلة لتغيير طرق التجارة، أو فاصلة لا مفر منها لتجديد الدماء، لكأن الهدهد لا يزال يخاطب سليمان حتى اليوم "وجئتك من سبأ بخبر يقين." وفي مرويات شعبية يمنية، جاء أن نجمة ومضت في برج الثور قبل ألف عام ونيف، ثم هاجرت إلى مدار آخر، غير أنها بقيت تومض، وتومض، طوال ثلاث وعشرين يومًا قبل أن تنطفئ،
وإلى الأبد.
لكن أهل صنعاء يتحدثون عن تلك النجمة بوصفها حصانًا من الضوء انشطر إلى مسارين، سقط الأول منهما على "قلعة صيرة" التاريخية في أطراف عدن، وحط الثاني في آثار بابل المهيبة في العراق، ويُعتقد بأن امرأة من صنعاء نسجتها من الخيال منذ زمن بعيد، وصارت على كل لسان، والأصل أن ابنها هاجر إلى العراق، ومات فيه، وهو يردد "لابد من صنعا ولو طال السفر." فجُنّت عليه وتخيلته نجمة على هيئة حصان شارد.