عدنان الصائغ: الشعر يزداد ألقًا كلما توحّش العالم

ثقافية

عدنان الصائغ: الشعر يزداد ألقًا كلما توحّش العالم
100%
حاوره/ زياد جسام عدنان الصائغ، شاعر التحدي والجمال، الذي حوّل تجربته بين الحرب والمنفى إلى نص شعري فريد، ليس لغويًا فحسب، بل فعلًا وجوديًا وابداعيًا. قصيدته موقف جمالي وإنساني، ينبض بالحرية والرفض والتحدي، من ضفاف الفرات إلى مقاهي بغداد، ومن خنادق الحرب إلى المنافي الأوربية. من أبرز منجزاته الملحمية (نشيد أوروك - 549 صفحة) و(نرد النص - 1380 صفحة)، نصوص تجاوزت حدود القصيدة التقليدية، حين يلتقي التاريخ بالأسطورة، واليومي بالجمالي، لتصبح تجربة فريدة في الشعر العربي الحديث. في هذا الحوار، يستعيد الصائغ رحلته الشعرية ويكشف قوة القصيدة في مواجهة القهر والتحدي. * مرّت تجربتك الشعرية بمراحل متعددة، من الحرب إلى المنفى، كيف ترى تحوّلات صوتك الشعري بين الأمس واليوم؟ - حملَ صوتي الأولُ ترقرقَ أمواج نهر الكوفة وأنين نواعيره، ممتزجًا بنايات القرى في الصوب الثاني من ذلك النهر الحبيب، وكنّا فتيةً نعبرُ إليها سباحةً، أو مشيًا وئيدًا على أحلام ذلك الجسر، الذي صادف اكتماله في سنة مولدي 1955. ثم اتجه صوتي الثاني عابرًا ذلك الجسر إلى ضفاف دجلة؛ بغداد وشارع المتنبي ومقهى حسن عجمي ونصب الحرية، حيث حمل غلاف ديواني الأول عام 1984 اسمه وصورته. ثم ساقونا جنودًا إلى سواتر تلك الحرب المجانية المجنونة القاسية، منذ اندلاعها، فحمل صوتي الثالث الكثير من دخانها وشهقات الجنود في خنادق الموت. وقد "خرجتُ من الحربِ سهوًا" كما عبَّرتُ في قصيدة لي. ثم خرج صوتي الرابع من تلك الزنزانة، إلى هواء الحرية لأول مرةٍ في حياتي. هواء الحرية الأقل في المنافي العربية، ثم الأكثر في المنافي الأوربية، حيث عشتُ في السويد ثمانيَ سنوات، وفي لندن لأكثر من عشرين سنةً، ولا أزال. هكذا تتنوع قصائد أي شاعر وشاعرة، وفقًا لتنوع التجربة والمناخات التي تكون فيها. وهكذا كانت رحلتي الصعبة من الحرب إلى المنفى، تنوعًا وتماهيًا مع تلك المفاهيم. * في قصيدتك، غالبًا ما نجد عناصر النضال والمقاومة، سواء كانت اجتماعية أو شخصية، كيف يمكن للشعر أن يكون فعل مقاومة ضد القهر؟ - ربما لا أجد فرقًا او اِختلافًا كبيرين بين أهم ركيزتين للشعر، وهما: الجمال والمقاومة، الرفض والتغيير. فإنْ يكون الشاعر مؤمنًا بقوة الحياة، ساعيًا إلى الجمال، فهو بالضرورة يقفُ ضد الظلم والقبح والجهل وإلخ. وإن يؤمن بالحرية والإنسانية والحب، فبالتأكيد ستكون كتاباته مع الحق والجمال والتحدي الحر والثورات الحقة. * (نشيد أوروك) يُعد من العلامات الفارقة في الشعر العربي الحديث، كيف ولدت هذه الملحمة فيك؟ وهل ما زالت أوروك تسكنك بعد كل هذا الوقت؟ - ولدت القصيدة (نشيد أوروك) في إسطبل مهجور للحيوانات في منطقه شيخ أوصال في السليمانية، عام 1984، حين أجبرونا، كجنود احتياط مُعاقبين، أيام الحرب العراقية الإيرانية المريرة، على السكن فيه، لشهور طويلة قاسية. وسأعرف بصدفة غرائبية عن صدور ديواني الأول في بغداد (اِنتظريني تحت نصب الحرية)، واحتفاء نقاد كبار به، مثل عبد الجبار داود البصري، ويوسف نمر ذياب، ومدني صالح. في الليل وعلى ضوء الفانوس كتبتُ السطور الأولى: في المَحَافِلِ.. أو في المَزَابِلْ (....) في دروبِ الصحافةِ، في اللادروبِ الغروب الذي سالَ .... أو مالَ مَنْ قالَ: إنَّ القصيدةَ لا تنتهي في (....) في مِقَصِّ الرقيبِ (....) فيَشْطُبُ - في الصبحِ - نِصْفَ القصيدةِ كي تستقيمَ / مع المَيَلانِ الأخيرِ / لوَزْن ِالوظيفةِ (....) وعَبُّودُ / يزحفُ / في ساحةِ العرضاتِ: صباحَ الأناشيدِ / يا مدنَ الحربِ... / إنَّ / القنابلَ/ لمْ /تفْطرِ /الآن.. دون أن أدري أنه سيجرّني إلى أكثر من 500 صفحة، على مدار 12 عامًا (1984 - 1996) في قصيدة مدورة على بحريْ: (المُتَقَارب) و(المُتَدَارك)، حيث حطَّت بي الرحال في بيروت هاربًا من ذلك الجحيم. كانت أوروكُ محورَ القصيدة الرئيس، أو معادلًا موضوعيًا لها. تمضي الوقائع والأساطير وتعود إليها. وقد استل منها الصديقان: المخرج الفنان غانم حميد، والمُعد الفنان إحسان التلال (وكانتْ في مسوداتها الأولى) العملين المسرحيين (هذيان الذاكرة المر) 1989 في أكاديمية الفنون الجميلة، و(الذي ظلَّ في هذيانه يقظًا) 1993 على مسرح الرشيد، وبسبب الأخير - بعد إحساسي بالخطر المحدق - نأَيتُ عن الوطن. * لكن من بعده جاء عملك الأطول والأصعب (نرد النص)، هل هو استكمال لما انتهى منه النشيد؟ - صدفةٌ أخرى، في بيروت نفسها، في العام نفسه 1996، أوقعتني في شَرَك هذا النرد، فالتفَّ بي ودار بي ودرتُ به لأكثر من 25 عامًا (1996 - 2022)، وقد حطَّ بي بلندن، في نصٍّ مفتوحٍ طويل يفترش 1380 صفحة. نعم، يمكنك القول إن هذا النردَ هو استكمال للنشيد، لكن بطريقة مختلفة تمامًا، شكلًا ومضامين ولغةً وجرأةً وإيقاعًا وجنونًا، وغير ذلك. * ما الذي فقده عدنان الصائغ الشاعر بسبب الرقابة والمنفى، وما الذي كسبه؟ - بذلك الخطاب المستتر، كنَّا نتحايل على الرقابة كأولاد مشاكسين، نراوغ مقصّاتها بحذرٍ، وأحياناً بتحدٍّ من نوعٍ ما، فتمضي نصوصنا ساخرةً منها. إلَّا أنه في أحيان كثيرة ينتبه الرقيب، أو تنبههُ تقارير بعضهم، فتحدثُ مشكلات، بعضها طفيف وبعضها صعب وخطير، أدى إلى الاعتقال والتصفية. وكادتْ التقارير أن تكون مميتةً على بعض القصائد، ولاسيما مسرحية (الذي ظلَّ في هذيانه يقظاً) عام 1993، لولا هروبي من الوطن بعد أشهر قليلة من عرضها في العام نفسه. لقد وضعني هذا الأمر أمام مفترقين لا يلتقيان ولا ثالث لهما؛ إما التنازل، وهذا مستحيلٌ، بل يعني لي الموت المعنوي والنفسي، أو الرحيل، فسلكتُ الثاني برغم ما به من مراراتِ وفقداناتٍ. وطال الحال والمآلُ - رغم التغيير - حتى يومنا هذا. فقد تغيّر نوع الرقيب [فقط]، فتغيرت - وفقًا لذلك - مهماته وقائمة ممنوعاته إلى أخرى. أما المنفى الذي أعيشه، فقد أخذ مني الكثير وأعطاني الكثير أيضًا، وأهم شيء – بالنسبة لي – هو الحرية، التي قد تعادل الخبزَ، أو الأرض، أو الإنسان نفسه. *لو عاد بك الزمن إلى الكوفة، حيث كانت البدايات، هل كنت ستختار الشعر مرة أخرى؟ أم شيئًا آخر؟ - بالتأكيد نعم! برغم إدراكي بأنني سأعيد سلسلة العذابات والانكسارات التي رافقتني، لأنني - في الأخير كما أنا الآن - أجدها كانت مهمة لصقل الأدوات والحس والإدراك، ولإنضاج التجربة. الآن اقولُ، وقد عدتُ قبل أسابيع قلائل من أكبر مهرجان شعري في العالم، هو مهرجان ميديلين في كولومبيا الشعري الدولي الخامس والثلاثون، 2025، حضره أكثر من 70 شاعرًا وشاعرةً من قارات العالم الست، بجمهور يصلُ إلى خمسة آلاف، اكتظتْ به المدرجات، حتى ساعات متأخرة من الليل، أقول: إن الشعر يزداد ألقًا وحضورًا وقوة كلما توحّش العالم.

إقــــرأ المــــزيــــــــد

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال
تحقيقات

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي
تحقيقات

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي

حياة بلا تواصل اجتماعي..  هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟
تحقيقات

حياة بلا تواصل اجتماعي.. هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟
تحقيقات

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي
تحقيقات

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"
تحقيقات

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"

أبرز الأخبار

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

قصة إعدام الفنان صباح السهل

قصة إعدام الفنان صباح السهل

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج