مصطفى جواد جياد
قديمة هي علاقة الإنسان بالغيب، الذي يكمن وراء هذا العالم المُعاش، فقد كان، ولا يزال، يبحث عن منقذ ينتشله من ضياعه وعجزه الوجودي، وسط هموم أثقلت كاهله وصعاب عجز عن احتوائها.
من هنا مضى باحثًا عمّن يفسر له قلقه الوجودي، متوسمًا في كهف السحر والشعوذة ملاذًا يلوذ به، وهو الملاذ الذي صنعه الدجالون والمشعوذون مستغلين جهل الناس وحاجتهم وفاقتهم. تراكم الجهل بفعل ما مر به الإنسان عبر العصور من قهر وحرمان وموت مفاجئ واضطرابات متتالية وفقدان الأمان وصعوبة الحصول على لقمة العيش، فتكوّنت شخصية مشبعة بالعجز، مقهورة أمام كل حدث كوني أو بشري.
وهكذا وجد الإنسان نفسه يطوف في عوالم الغيب والوهم بحثًا عن ملاذ آمن.
وكلما زادت وطأة الحرمان والاستبداد وغياب الحلول الواقعية، كانت الشعوذة أداته لفهم ما لا يفهم وتفسير ما استعصى عليه إدراكه بعقله. تجارة مربحة أضحى السحر عزاءً للإنسان المقهور، يعلق عليه إخفاقاته.
فإذا نزلت به مصيبة أو مرض أو جوع أو فشل، نسب ذلك إلى (عين حاسد) أو (قوى خفية) نصبت له الشر، ولجأ إلى السحرة لمعالجتها. وبهذا خلق لنفسه وهمًا، لكنه سرعان ما يقع في وهم آخر، إذ يجد نفسه أسيرًا لأولئك المشعوذين الذين يعرضون الوهم دواءً، محولين حاجته إلى تجارة مربحة بأثمان باهظة. وهكذا يهرب الإنسان من جور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ليقع تحت سطوة السحرة الذين يسلبونه ما تبقى منه. مع تطور الزمن، تطورت مهنة السحر بدورها واتسعت، حتى باتت تعيش بيننا بواجهات براقة تحت مسميات (المعالج الروحاني) أو (العارف) أو (قارئ الطالع).
بل إن بعضهم حظي برعاية من قنوات فضائية إعلامية اخترقت الأسرة، نواة المجتمع، ناشرة الجهل والخرافة في المجتمعات العربية، ومنها مجتمعنا الذي أنهكته الحروب والحصار الاقتصادي والحرمان، فكان أرضًا خصبة لانتشار هذه الظاهرة. مرض جمعي لقد تحولت الشعوذة إلى مرض جمعي يتغلغل في نفوس الكثيرين، تغذيه سنوات الألم والمعاناة، فتغلغلت الخرافة كالأفعى في تفاصيل الحياة اليومية.
ومع فقدان الثقة بالمؤسسات الداعمة وبطء الإجراءات الحكومية في تأمين حياة كريمة، ازدهرت هذه الممارسات.
وأضحى الناس يقصدون أربابها بحثًا عن حلول لمشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي لم يجدوا لها حلًا لدى الدولة أو الجهات الرسمية. المشعوذ هنا يلعب دور (المنقذ)، لكنه في الواقع يشكل تهديدًا كبيرًا؛ إذ يصنع وهمًا متعمدًا، مستغلاً جهل الناس، ويظهر في مقاطع مصورة على مواقع التواصل الاجتماعي كنوع من الدعاية، يخفي فيها نهمًا داخليًا للسيطرة والهيمنة، فضلًا عما يجنيه من أموال طائلة. إعلام توعوي ومع أن المشرع العراقي لم يغفل هذه الظاهرة، فعدّها من جرائم الاحتيال المنصوص عليها في قانون العقوبات رقم (111 لسنة 1969 المعدل)، ولاسيما المادة (456)، واعتبرها من الجرائم التي تمس النظام العام والآداب العامة، إلا أن هذا الموقف غير كافٍ.
فالتشريع الحالي يحاصر الظاهرة ولا يكافحها، إذ إن جريمة السحر والشعوذة جريمة قائمة بذاتها تتوافر فيها أركان الجريمة كاملة، ما يستوجب سنّ قانون خاص يجرّمها بشكل مستقل ويعاقب مَن يزاولها، أو يروّج لها، أو يلجأ إليها. لكن الردع القانوني وحده لا يكفي، إذ لا بد من تكاتف مؤسسي ومجتمعي لمحاربتها.
فالإعلام مطالب بتوعية الناس بخطورتها النفسية والجسدية، كما يجب معاقبة القنوات التي تروّج لها. والخطاب الديني بدوره يمثل وسيلة فاعلة لمكافحتها، عبر بيان حرمتها شرعًا والتأكيد على ثقافة العمل والتوكل على الله، لا الاتكال على الغيبيات. إن مواجهة هذه الظاهرة مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع؛ فالدولة، عبر مؤسساتها القضائية والأمنية والإعلامية، مطالبة باتخاذ خطوات جادة لمحاصرتها، والمجتمع، عبر وعيه بخطورتها، يجب أن يقف بوجهها. فالشعوذة ليست مجرد خداع فردي، بل هي وباء اجتماعي يؤدي إلى تفكك الأسرة، ويشيع الاتكال على الغيبيات، ويزرع الكسل والتراجع في جسد المجتمع.