ريا الفلاحي
أيلول 2025 لم يكن مجرد شهر في تاريخ بغداد، بل كان سيمفونية متكاملة من الفن والثقافة والتنمية الحضرية. على مدار أيامه، حين اجتمعت السينما والكتاب والمشروعات العمرانية الكبرى في قلب العاصمة، لتعيد لها رونقها التاريخي، وتثبت أن بغداد قادرة على مزج الماضي بالحاضر، الفن بالتنمية، الجمهور الرسمي بالشعبي، والعربي بالعالمي. النسور والرشيد مع شروق يوم 9 أيلول 2025، انطلقت بغداد لاستقبال زائريها في شارع الرشيد بعد إعادة تأهيله الشاملة. ثلاثة كيلومترات من الأرصفة المزينة والإضاءة الحديثة، أعادت الحياة للمناطق التجارية والثقافية المحيطة، فيما كان المشهد يعج بحركة التجار والمارة، كلهم يلمسون الفرق بين ما قبل المشروع وما بعده. بعد أسبوع، وفي 15 أيلول، تحولت الأنظار إلى ساحة النسور، حيث افتتح المشروع بحضور رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني ووزير الإعمار والإسكان، وسط احتفاء شعبي واسع. ثلاثة أنفاق مرورية، ومجسّران جديدان أعادا للساحة حيويتها، وسهّلا الحركة اليومية لملايين السكان من مناطق غرب بغداد. أما مدخل بغداد – الموصل، فكان آخر مفاجآت الشهر، حين افتتح يوم 17 أيلول بحضور رئيس مجلس النواب محمود المشهداني ورئيس الوزراء. توسعة الطريق وإعادة تأهيله عززت الحركة التجارية والنقلية، لتصبح الرحلة إلى المحافظات الشمالية أكثر سلاسة وأمانًا. في كل هذه المشروعات، بدا الاحتفاء مزيجًا بين الرسمي والشعبي، مع كاميرات المواطنين وهواتفهم الذكية توثق اللحظات، والابتسامات تملأ الشوارع.
المشروعات، التي بدأت في 2023، تؤكد حرص الحكومة على تقديم نموذج للتنمية الحضرية، يدمج الحداثة مع الطابع التاريخي للعاصمة. مهرجان بغداد السينمائي تحت شعار "بغداد عاصمة السياحة العربية 2025"، انطلقت الدورة الثانية من مهرجان بغداد السينمائي الدولي، لتكون منصة للأفلام العربية والعالمية، جمعت صناع السينما والنقاد والفنانين من أكثر من 30 دولة، مع تكريم خاص للسينما التونسية كضيف شرف. جرى عرض أفلام مميزة، بينها (صمت القصور)، للمخرجة مفيدة التلاتلي، والفيلم العراقي التاريخي (سعيد أفندي) (1957)، الذي أعيد ترميمه بدقة 4K ضمن مشروع سينماتك، لترميم الذاكرة الصورية الوطنية، ليشهد الجمهور العراقي لحظة فنية استثنائية، تجمع بين الأصالة والتقنيات الحديثة. المهرجان شهد مشاركة 67 فيلمًا مختارًا من بين 423 عملًا، بين روائي طويل وقصير، وثائقي وأفلام تحريك، مع تقديم 15 فيلمًا روائيًا طويلًا، بينها خمسة أعمال عراقية بارزة. وفي أيام بغداد لصناعة السينما (17 - 20 أيلول)، قدّمت ورش عمل متخصصة، وعروض أفلام، ولقاءات مهنية عززت تواصل صناع السينما المحليين مع نظرائهم الدوليين. توزعت العروض على مسرح الرشيد ومول الجادرية، بينما أقيمت ورش العمل في قاعة صاحب حداد بمسرح الرشيد، بحضور بارز للفنانين والنقاد: غسان مسعود، وخالد يوسف، ومقداد عبد الرضا، وداليا البحيري، وحسنا أبو العلا. كما جرى تكريم 18 فنانة عراقية من رائدات السينما، مع جوائز مالية للفائزين بلغت قيمتها بين 4,000 إلى 10,000 دولار، إضافة إلى جوائز للفيلم الطويل والقصير والوثائقي والأنيميشن. معرض للكتاب بينما كان الجمهور يملأ صالات السينما، اجتذب معرض بغداد الدولي للكتاب أكثر من مليون زائر، بمشاركة 350 دار نشر من 20 دولة. رائحة الورق الجديد امتزجت بأصوات الزوار، والمكتبات المتنقلة كانت قلب التفاعل الثقافي. ندوات مثل "المسرح القطري.. تجربة خمسين عامًا وأكثر" للكاتب حسن رشيد، و"هندسة المشاريع والفعاليات الثقافية" للخبير ناصر المالكي، جمعت جمهورًا حريصًا على المعرفة، بينما جلسات توقيع الكتب استقطبت الروائيين هدى بركات، ونورا ناجي، وعبد الرحيم كمال، وأحمد مراد، ومحمد سمير ندا. مبادرة (اقرأ) وزعت عشرات الآلف من القسائم المجانية للشباب، فيما أتاح التطبيق الإلكتروني متابعة الفعاليات وطلب الكتب، لتصبح التجربة رقمية وحية في الوقت نفسه. من جانبها، قدمت شبكة الإعلام العراقي، خلال المعرض، فعاليات ثقافية وإعلامية، أبرزها ندوة "هل تعكس مواقع التواصل الاجتماعي صورة الواقع في العراق؟" التي أدارها رئيس تحرير مجلة الشبكة العراقية حليم سلمان، واستضاف فيها رئيس الشبكة كريم حمادي.
النقاش تناول التضليل الإعلامي ودور الشبكة في التحقق من الأخبار، مع تسليط الضوء على شهداء الإعلام العراقي وجهودهم في بناء وعي مجتمعي. المعارض الفنية على صعيد الفن، انطلق معرض (الوقت) للفنان أحمد البحراني في قاعة The Galleryأ(19 أيلول – 2 تشرين الأول)، وهو أول معرض شخصي له على أرض الوطن، بعد تجربة واسعة في المعارض الدولية.
أعماله تعكس الزمن من منظور إنساني متأثر بالحنين والمنفى، وتدعو الزوار للتفاعل مع تجربة فنية فريدة تغوص في الذاكرة والغياب. بغداد، في أيلول 2025، لم تكن مجرد مدينة، بل تجربة حية للإبداع والفن، والثقافة والتنمية الحضرية. السينما عرضت قدرات العراق الإبداعية، الكتاب عزز المعرفة والثقافة، والمشروعات العمرانية أعادت الحيوية للشوارع والساحات. شبكة الإعلام العراقي كانت الشاهد والموثق لكل لحظة، لتؤكد أن بغداد قلب ينبض بالإبداع والثقافة والتنمية، وعاصمة عربية حقيقية لكل من يسعى للتجربة والمعرفة.