الديمقراطية التداولية

اعمدة

الديمقراطية التداولية
100%
محمد عبد الجبار الشبوط تقوم الديمقراطية التقليدية، كما عرفها الغرب، على مبدأ حكم الأغلبية عبر صناديق الاقتراع. وهي صيغة عملية لتنظيم السلطة وتداولها. لكنها كثيرًا ما تُختزل إلى إجراءات شكلية، ينتهي دور المواطن فيها بمجرد الإدلاء بصوته، ويُترك القرار السياسي بعد ذلك للنخب المنتخبة، بغض النظر عن نوعية النقاشات أو عمقها أو تمثيلها الفعلي للإرادة العامة. هذا النمط من الديمقراطية قد يصلح لمجتمعات متجانسة ومستقرة، لكنه سرعان ما يُظهر محدوديته في المجتمعات المتعددة، أو تلك التي تسعى إلى بناء دولة حضارية قائمة على القيم والمشاركة الواعية. من هنا، يطرح مشروع الدولة الحضارية الحديثة بديلًا أرقى: الديمقراطية التداولية (Deliberative Democracy)، بوصفها فلسفة حكم ووسيلة لاتخاذ القرار العام تقوم على النقاش العقلاني العام، لا مجرد التصويت العددي. في الديمقراطية التداولية، لا يُختزل المواطن إلى (ناخب)، بل يُنظر إليه بوصفه فاعلًا عقلانيًا - قيميًا، يُشارك في النقاش العمومي حول السياسات، ويُسهم في بناء القرار من خلال الحجة، لا الغلبة. وتُصبح المؤسسات السياسية - البرلمان، والإعلام، والمجالس المحلية، ومنصات الحوار- ساحات للتداول المعرفي الأخلاقي، يُبنى فيها القرار على قوة المنطق، لا منطق القوة. هذا النموذج ينسجم جوهريًا مع الفهم الحضاري للسياسة، الذي لا يراها صراعًا على السلطة، بل أداة لتحقيق الخير العام. ومن هنا، فإن الديمقراطية التداولية تتجاوز البعد التقني للديمقراطية إلى بعدها الأخلاقي الحضاري، إذ يُشترط في القرار أن يكون ليس فقط ممثلًا للأغلبية، بل أيضًا عادلًا، عقلانيًا، ومستنيرًا. وفي سياق الدولة الحضارية، فإن هذه الصيغة التداولية تُعزز الثقة بين الدولة والمجتمع، لأنها تجعل المواطن شريكًا، لا متلقيًا، وتمنح السياسة بُعدها القيمي المفقود، وتُحرّرها من أسر المصالح الضيقة والمحاصصة الفئوية. كما تُعد الديمقراطية التداولية علاجًا جذريًا لانقسامات المجتمعات التعددية، لأنها تفرض الحوار كآلية إنتاج للقرار، وتدفع الفاعلين إلى تجاوز هوياتهم الجزئية نحو رؤية مشتركة قائمة على العقل والقيم. إنها تعلّم الناس كيف يختلفون بكرامة، ويتفاوضون بوعي، ويصلون إلى حلول نابعة من الإرادة العامة لا من الصفقات المغلقة. لكن الديمقراطية التداولية لا تُبنى بمجرد الإعلان عنها، بل تحتاج إلى ثقافة حوارية راسخة، وتعليم يربّي على العقلانية والاحترام، وإعلام مسؤول يوسّع المدارك بدل أن يختزلها، ومؤسسات مفتوحة تعكس التنوع بدل أن تخنقه. إن تبنّي هذا النموذج ليس ترفًا، بل ضرورة لدولة تسعى إلى أن تكون حضارية وحديثة في آن. فالديمقراطية الحقيقية ليست صندوق اقتراع، بل مسار مشترك لصناعة القرار بين عقلاء الأمة.

إقــــرأ المــــزيــــــــد

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال
تحقيقات

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي
تحقيقات

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي

حياة بلا تواصل اجتماعي..  هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟
تحقيقات

حياة بلا تواصل اجتماعي.. هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟
تحقيقات

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي
تحقيقات

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"
تحقيقات

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"

أبرز الأخبار

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

قصة إعدام الفنان صباح السهل

قصة إعدام الفنان صباح السهل

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج