100%
صفاء ذياب
في كل مرَّة يجري الحديث فيها عن الوطن، بأشكاله العديدة، تتبادر إلى ذهني أغنية محمد فؤاد في فيلم (أمريكا شيكا بيكا)، حين يتساءل عن كلمة وطن:
يعنى إيه كلمة وطن
يعنى أرض، حدود، مكان، ولّا حالة من الشجن
ولّا إيه ولّا إيه ولّا إيه
شاي بالحليب على قهوة في الظاهر هناك
نسمة عصاري السيّدة ودير الملاك
يعنى إيه كلمة وطن؟؟؟
يدخلنا الفيلم في حالات نفسية وتوهان مستمر، فبعد أن حاولت مجموعة مهجرين الهرب للوصول إلى أية نقطة آمنة، عادوا في النهاية إلى وطنهم، فليس هناك أي حضن يمكن أن يدفئهم كحضن الوطن.
وهذا ما عاشه ملايين العراقيين، هجرات عديدة لعقود لا تتوقف، وتيه في أوربا وأميركا والدول العربية، غير أنَّنا بعد هذا كلّه لابد أن نعود...
ومن هنا نتساءل: كيف يمكن أن نرسم صورة الوطن على الرغم من الأزمات التي مررنا بها كلّنا؟
لغات الوطن
الشاعر ناجي رحيم يرسم صورة مشبّعة بمضامين طفل، أنا وهو وأنت وأبي وجدّي، الوطن لغات وتجارب وتواريخ، كثيرون حاولوا، أغانٍ حاولت، جدّات على مواقد يغنين الوطن، "أتذكّرني طفلًا في غرفة طينية، جدّتي تتحدّث عن هجرة، هجرتها من أهوار العمارة، من عمق الهور إلى الناصرية.. حكاية طويلة.. كانت وهي تتحدّث تبكي، في دموعها لمست معنى وطن، الأرض الأولى، الأحبّة، ملمس الذكرى، الدموع لغة تكتبنا، بها كتبت جدّتي معنى أصالة لا يعرفها سوى من يفتقدها، للأسف لا نثمّن أشياء كثيرة إلا حين غيابها."
لا شيء يمكن أن يحدّد شعورًا في لحظة- حسب رحيم- قد تبكي، قد تنظر إلى خريطة غابت أو تكرّست، قد تخرج من غرفة مشبّعة بالتدخين وتجلس وسط شعوب لا تعرفك ومعك هاجس، هواجس وطن، الوطن لغة والكلمات وطن، أنت من دون كلمات لا شيء، حتّى وإن عاندت لابدّ منها، قد تصرخ أو تبكي، وهذي لغة أيضًا. "أدّعي أنَّني عراقي في الصميم، الناصرية لا تغيب، محلّة الشرقية، أفقر حيّ ولدت فيه وأحبّه، حيّ أور في بغداد، مدينة الثورة، وحتّى معسكر أبو غريب حيث سُقت للعسكرية، وطن، الوطن هو الحبيبة التي سهرت معها لياليَ على التلفون، حين لا إنترنت ولا ماسنجر ولا فيسبوك، الحبيبة التي غادرت إلى كرش ضابط وكنت هاربًا، هارب من حرب الثمانينيات..، (الوطن) لا تكتبه كلمات خلاصتي، عجين الروح ربّما هو من يكتب وطن، عجين الحسّ، الوطن لغات ولغات."
لوحة الوطن
غير أنَّ هناك نظرة أخرى حين تكون شاعرًا ورسامًا يدرك ما معنى الرسم، بالألوان وبالكلمات، مثل الشاعر والفنان عمار بن حاتم، الذي يشير الى أنَّ الإنسان يستطيع أن يرسم بلاده كما يشاء، ويستطيع تصويرها مثلما يريد، فقد يرسمها كسجن مرعب، أو جنَّة عظيمة، اللغة هي الريشة واللون التي نستخدمها لرسم صورة الوطن بالكلمات.
يسرد بن حاتم تفصيلة مختلفة، وهي أنَّ الوطن ليس سوى قطعة من الأرض لها مقوّمات تشترك، لتكّون وطنًا بالمعنى وبالشكل الذي نعرفه نحن بني البشر، لذا فنحن من يصنع صور الوطن ونحن من يرسمه، سواء كان جنَّة أو أطلالًا نبكي عليها... فاللغة التي نستخدمها في وصف الوطن هي التي ترسمه (لغة القصيدة، والأغنية، واللوحة، والقصة، والرواية)، فجميع لغات الجمال تُرسم بها الأوطان.
أما عن بناء الأوطان بالكلمات، فيقول بن حاتم إنَّ هذه مسؤولية عظيمة تقع على عاتق صنَّاع الجمال، وواجبهم رسم الوطن بأبهى صورة والإشارة اليه كمقدّس، أو كأبٍ يجتمع تحت خيمته الجميع كإخوة، وليس هنالك أعظم من رسالة كهذه تُبنى بها أسس المواطنة وحب الوطن في قلوب الأجيال، فكم من شعراء وكُتَّاب درسنا نصوصهم وقصائدهم في الطفولة وتعلّمنا منهم أنَّ الوطن هو الانتماء، وأنَّ حب الوطن هو الرابط المقدّس الذي يجعل لكلِّ إنسان معنىً ووجودًا في هذه الحياة... فصُنَّاع الجمال هم بُناة الوطن، وهم صنَّاع الحياة فيه، لأنَّ تجزئة الوطن وتقسيمه والدعوة إلى تقطيع أوصاله هي دعوة إلى موته.. هنا تكون الكتابة مسؤولية فكلُّ كلمة نبني بها لبنة، فإنَّنا سنؤسّس بذلك للغة حب وثقافة تسامح وأخوة وبناء مجتمعات مبنية على حب الوطن والمواطنة.
يوتوبيا الأرض
في حين يرى الشاعر علي تاج الدين أنَّ العراق في غالبية النصوص الأدبيَّة العراقية (شعرًا ونثرًا) يتموضع تحت صورتين هما: الأرضِ الخَرِبةِ المهدَّمةِ نتيجة هيمنة السياقات السياسية، ومن ثمَّ العسكرية ممَّا قد خلَّفت الحروب المتعاقبة والحصار، ثُمَّ عودة الخراب والحرب للأسباب ذاتها مع تغيير وجه السياسة، وهذه الصورة تنضوي تحت المذهب الواقعي على الأغلب. والثانيَة هي صورة الأرض اليوتوبيَّة (الموعودة)، وهي ذات منحى خيالي، تنضوي تحت المذهب الرومانسي على الأغلب، وهنا يرسم الأدباءُ وطنَهم العراق حسب آمالهم وطموحاتهم، لكن في عالم اللغة فقط للأسف، وهذا هو أحد مظاهر البون بين الأدب والشارع، فالكلمات وحدها غير كافية لبناء الوطن من دون مساعدة من الفعل الفلسفي والعلمي والسياسي الناجح، ومن هذا المُنطَلق يظنُّ تاج الدين أنَّ على الأديب أنْ يكونَ مفكّرًا وعالِمًا ليكون من القوة بمقدارٍ يوازي حجمَ هذا الخراب، فيكون فاعلًا حقيقيًا في بناء وطنه.