زياد الهاشمي
عاد الحديث مجددًا عن مسألة إعادة إحياء أنبوب النفط الرابط بين العراق وميناء بانياس السوري، بعد أن أبدت الحكومة السورية رغبتها في التعاون مع العراق لإعادة تشغيله بعد توقفه نهائيًا عام 2003، في بادرة قد تعبّرعن نية الإدارة السورية الجديدة في فتح صفحة جديدة مع العراق عبر بوابة الطاقة والاقتصاد. ومع أن ملف هذا المشروع لا يزال في طور الأحاديث الجانبية الاستطلاعية بين الجانبين، إلا أنه أثار موجة من النقاشات الداخلية، بين رأيٍ مؤيد يرى أن هناك فرصة ستراتيجية لتقوية أمن الطاقة العراقي من خلال هذا المشروع، وبين رأيٍ مقابل يرى أن هذا المشروع يُعد مغامرة جيوسياسية غير محسوبة العواقب، قد تضع بغداد في قلب أزمات إقليمية، وتعرّض أمن الطاقة العراقي لمزيد من التحديات. لذلك يستحق هذا المشروع وقفة لتسليط الضوء على أبرز سلبياته وإيجابياته. إيرادات مالية بمراجعة سريعة، نجد أن العراق يصدّر اليوم أكثر من 3.3 ملايين برميل من النفط يوميًا، يُحمَل أكثر من 90 % منه عبر موانئ البصرة على الخليج العربي، ما يجعل منها المنفذ الرئيس والوحيد لتصدير النفط العراقي، بعد توقف أنبوب جيهان النفطي عن العمل منذ أكثر من سنتين، بسبب الخلافات مع الجانب التركي. هذا الاعتماد المفرط على منفذ وحيد لتصدير النفط يعتبر تحديًا محتملًا على أمن الطاقة العراقي، في ظل وجود العديد من المؤثرات الجيوسياسية التي قد تعرقل، في أية لحظة، انسيابية الحركة الملاحية في الخليج، وتتسبب في تعطيل كامل، أو جزء، من قدرة العراق التصديرية، وعزل النفط العراقي عن سوق الطاقة العالمي، وحرمان الدولة العراقية من إيرادات مالية لا غنى ولا بديل لنا عنها. هذا التركيز على منفذ تصديري واحد أسهم بالمحصلة في خلق تركيز على أسواق بعينها لبيع النفط العراقي، إذ يوجّه العراق 80 % من صادراته النفطية، أو أكثر، نحو الأسواق الآسيوية، وعلى رأسها الصين والهند وكوريا الجنوبية. هذا التركيز والاعتماد العالي في البيع، على سوق محددة دون غيرها، يضعف قدرة بغداد على المناورة في حال تغيرت أنماط الطلب في آسيا، أو ظهرت منافسة شرسة من روسيا وإيران والسعودية على الحصص السوقية هناك. أما الأسواق الأوربية والأميركية، فلا تصلها إلا نسبة محدودة من النفط العراقي، بسبب التركيز العالي للبيع إلى آسيا، وارتفاع كلف الشحن وزمن الوصول مقارنة مع النفوط الأخرى المتاحة عبر المتوسط للأسواق الغربية. أهمية ستراتيجية وبسبب هذا التركيز العالي على منفذ تصديري واحد، وسوق رئيس واحد للنفط العراقي، تبرز أهمية تبني ستراتيجية جديدة تعتمد على تنويع المنافذ والأسواق، لتحقيق مستوى أعلى من المرونة لسلعة النفط العراقية، التي تتيح للعراق مساحة أكبر للتنافس وبيع نفطه إلى وجهات جديدة، أو، بمعنى آخر، الحصول على فرص جديدة لاختراق المزيد من الأسواق لزيادة الحصص السوقية. من هنا تبرز الأهمية الستراتيجية لأنابيب العراق الواصلة إلى مياه البحر الأبيض، ولاسيما أنبوب بانياس، الذي يعد خيارًا منطقيًا لتلبية متطلبات التنويع النفطي. فميناء بانياس على المتوسط يوفر للعراق منفذًا مباشرًا نحو أوربا، ما يعني تقليص كلفة النقل وزمن الشحن وزيادة تنافسية الخام العراقي في أسواق تتوفر فيها فرص المنافسة، بعد خروج النفط الروسي منها بسبب العقوبات، وتراجع إنتاج بحر الشمال. تشير تقديرات اقتصادية إلى أن مرور مليون برميل يوميًا عبر أنبوب بانياس يمكن أن يوفر للعراق أكثر من مليار دولار سنويًا من تكاليف النقل وحدها، فضلًا عن فتح أسواق جديدة تعزز الإيرادات وتقلل الاعتماد على آسيا. لذلك قد يمثل أنبوب بانياس فرصة لإعادة تموضع العراق في سوق الطاقة العالمي، حيث يمكن للعراق أن يطرح نفسه كمصدر موثوق وقريب جغرافيًا. وإذا ما تمكن من تقديم نفطه بسعر تنافسي، فقد يحقق اختراقًا في الأسواق الأوربية، التي ظلت عصية عليه لعقود، فمثل هذا الاختراق لن يعزز فقط الإيرادات، بل سيمنح العراق أيضًا وزنًا سياسيًا أكبر في علاقاته مع الغرب، ما يفتح المجال أمام استثمارات وتعاون اقتصادي وسياسي أوسع. حمايات مكلفة وبالرغم من هذه المكاسب الواضحة، إلا أن هذا المشروع قد يواجه عقبات عديدة محتملة. أولها البعد الأمني، فمسار الأنبوب سيمر عبر مناطق لا تزال هشة أمنيًا، ما يستدعي ترتيبات حماية معقدة ومكلفة. يضاف إلى ذلك أن بعض القوى الدولية والإقليمية قد تنظر إلى المشروع بعين الريبة، إذ سيُقرأ في واشنطن، وغيرها، على أنه تعزيز لمحور عراقي سوري إيراني جديد، أو قد تراه أنقرة مشروعًا منافسًا لأنبوبها الحيوي الرابط بين كركوك وميناء جيهان، وهو ما قد يثير توترات جديدة في علاقات بغداد الخارجية. لكن من المهم التذكير بأن التردد في إنشاء منافذ بديلة لا يعد خيارًا واقعيًا للعراق، فبينما تمتلك السعودية والإمارات، بالفعل، أنابيب بديلة تتجاوز مضيق هرمز، وتمتلك الكويت وقطر صناديق سيادية ضخمة تتجاوز أصولها مئات المليارات من الدولارات، تمنحها قدرة على الصمود في حال توقف التصدير، لا يمتلك العراق في المقابل أيًا من هذه الخيارات. فميزانيته تعتمد بنسبة تفوق 90 % على النفط، وعدد سكانه يفوق الـ 45 مليون نسمة، مع معدلات بطالة مرتفعة واحتياجات تنموية هائلة، وأي توقف قصير في تصدير النفط عبر الخليج يعني عمليًا دخول الدولة في حالة عسرة مالية حادة. ضمانات دولية لهذا السبب، يمكن أن يوصف مشروع أنبوب بانياس بأنه ليس مجرد خيار اقتصادي، بل مسألة ضرورية لتعزيز أمن الطاقة العراقي. فإذا تمكن العراق من صياغة اتفاق تعاقدي واضح مع دمشق، يشمل ضمانات دولية، أو مشاركة أطراف ثالثة ضامنة، كدول الخليج وأوربا، أو الأمم المتحدة، ورعاية شركات تأمين كبرى، فقد ينجح البلدان في تحييد المخاطر السياسية والأمنية وضمان تدفقات النفط دون مؤثرات أمنية وسياسية. لذلك، فإن الاتفاق حول هذا الأنبوب (بعد أخذ الوقت لدراسته بتأنٍ) يجب أن يتضمن بنودًا واضحة حول حقوق الملكية ورسوم العبور وآليات التعويض في حال توقف التدفقات، إضافة إلى تصميم تقني يضمن الحماية من الأعطال والتخريب. كما أن إشراك شركات عالمية كبرى في التنفيذ قد يمنح المشروع بعدًا دوليًا يحميه من التسييس. خلاصة القول إن أنبوب بانياس ليس مجرد أنبوب نفط إضافي، بل هو اختبار لقدرة العراق على اتخاذ قرارات ستراتيجية بعيدة المدى، تسهم في تنويع منافذه عبر مشروعات مدروسة تعمل على تأمين اقتصاده وتعزيز مكانته في سوق الطاقة العالمي. فالنجاح هنا يتوقف على مدى قدرة بغداد على الموازنة بين المكاسب الاقتصادية والمخاطر السياسية، وعلى مدى استعدادها لإدارة المشروع بعقلانية وتَجرّد من الحسابات الآنية.