100%
وسام الفرطوسي
في زاوية مهملة من ميناء المعقل في محافظة البصرة، تصارع الباخرة العراقية ("ابن خلدون)" مصيرًا قاسيًا. كانت يومًا ما رمزًا للحضور البحري العراقي، وأكاديمية عائمة خرّجت أجيالًا من الضباط والمهندسين البحريين، لكنها اليوم تحوّلت إلى هيكل متآكل يقف مائلًا على أحد جانبيه بعد أن التهمتها النيران وأثقلتها مياه الإطفاء.
يوم 27 تموز 2024 لم يكن عاديًا، حين اندلع حريق كبير في غرفة المحركات بالسفينة، بعدما تسلل مجهولون من جهة شط العرب، سرقوا ما تمكنوا من حمله، ثم أشعلوا النيران ورحلوا. تصاعدت ألسنة اللهب والدخان من قلب السفينة التي كانت راسية بهدوء على الرصيف 9، لتدخل بعدها "ابن خلدون" منعطفًا خطيرًا في مسيرتها الطويلة.
النار تترك أثرها
فرق الإطفاء في شركة موانئ العراق هرعت إلى المكان، بحسب ما يروي مدير قسم السلامة والإطفاء، الدكتور مصطفى داخل، الذي أوضح أنهم تلقوا البلاغ من شعبة المدونة الدولية، فاندفعت الفرق لإخماد النيران باستخدام كميات كبيرة من الرغوة والمياه، خصوصًا في المناطق القريبة من خزانات الوقود والزيوت.
وبالرغم من نجاح السيطرة على الحريق، إلا أن الضرر كان أعمق. السفينة امتصت كميات هائلة من المياه التي تسربت إلى بدنها المعدني، فأضعفت قوته، وبدأت الثقوب تظهر أسفل خط الماء. ومع مرور الأيام أخذت السفينة تفقد توازنها العرضي حتى بدت اليوم مائلة بوضوح إلى جهة الرصيف، كأنها تنحدر نحو النهاية الحتمية: الغرق.
تستغيث بصمت
البحّار السابق محمود التميمي، الذي رافق (ابن خلدون) في سنوات سابقة، تحدث لـ"الشبكة العراقية" بألم:
"كنت هناك ورأيت النيران تلتهم السفينة من الداخل. الدخان كان كثيفًا والحرارة تضرب كل شيء. بدت السفينة وكأنها تصرخ طلبًا للنجدة، لكنها في الحقيقة كانت تستغيث بصمت. مع كل لحظة تميل أكثر نحو الرصيف، كأنها تتراجع عن مقاومة مصيرها. لقد كانت بيتًا ثانيًا للكثير من البحارة، ورمزًا للتاريخ البحري العراقي."
يضيف التميمي أن المياه التي دخلت السفينة بعد الحريق جعلت الحديد يفقد متانته، ما يعني أن خطر الانقلاب أو الغرق الكامل صار وشيكًا جدًا. الأكثر إيلامًا –بحسب قوله– هو الصمت الرسمي الذي أحاط بالحادثة: "لا بيان، لا خطة إنقاذ، لا أية إشارة لمعالجة الوضع. وكأن مصير هذه السفينة، بكل رمزيتها، لم يعد يعني أحدًا."
أكاديمية عائمة
تاريخ (ابن خلدون) يجعل مشهدها الحالي أكثر قسوة. فقد صُنعت عام 1978 في مدينة هلسنكور بالدانمارك، وتحمل رقم المنظمة البحرية الدولية IMO7700491. كانت باخرة تدريبية استثنائية لأكاديمية الخليج العربي للدراسات البحرية في البصرة، إلى جانب كونها باخرة شحن بحمولة 12,670 طنًا.
احتوت السفينة على صفوف دراسية مجهزة بدائرة تلفزيونية ملونة، وقاعات تدريب ملاحية، ومكتبة، وورشة تدريب، وصالة رياضية داخلية تضم ملاعب كرة السلة والطاولة وحوض سباحة. كما ضمت مستشفىً طبيًا صغيرًا وغرفة جراحة عامة، فضلًا عن أماكن إقامة واسعة تتسع لـ200 طالب وطاقم مكون من 63 ضابطًا وبحارًا. آلاف الطلبة تخرجوا على متنها، لتصبح رمزًا للتعليم البحري العراقي لعقود.
ورغم أنها تعرضت للقصف مرتين في حربَي 1991 و2003، فإنها لم تغرق، بل واصلت رسوّها في ميناء المعقل، شاهدة على تاريخ طويل من التحديات والصمود. لكن الصمود يبدو اليوم في نهاياته.
رحلة سلام
(ابن خلدون) لم تكن مجرد سفينة تدريب وشحن، بل دخلت أيضًا في لحظات سياسية وإنسانية بارزة. ففي كانون الأول 1990، شاركت في "رحلة السلام" التي نظمها الاتحاد النسائي العربي مع 300 ناشطة أجنبية لنقل 800 طن من المواد الغذائية إلى العراق في تحدٍ للحصار الدولي.
لكن الرحلة انتهت بمرارة؛ إذ اعترضتها قوات التحالف قرب جزيرة مصيرة العُمانية، واقتحمتها بالقوة مستخدمة طلقات تحذيرية وقنابل دخانية، وأجبرت السفينة على التوجه إلى ميناء مسقط حيث فُرغت الشحنة. ورغم أنها واصلت رحلتها لاحقًا ووصلت إلى العراق في 14 كانون الثاني 1991، فإن الحادثة بقيت علامة على أن (ابن خلدون) لم تكن مجرد سفينة، بل رمز لصراع الإرادة العراقية مع التحديات الخارجية.
ذاكرة بحرية
اليوم، تقف (ابن خلدون) في ميناء المعقل وهي تميل ببطء نحو الماء، كأنها تجسد ذاكرة بحرية عراقية تتلاشى. لم تعد مجرد باخرة، بل صفحة كاملة من تاريخ التعليم والخدمة البحرية. إنقاذها ليس مهمة فنية فحسب، بل مسؤولية ثقافية ووطنية، قبل أن يغلق البحر عليها أبوابه وتغرق معها قصة جيل كامل من البحارة والضباط والطلاب.