100%
همسة وائل
في عمق الأهوار الجنوبية، حيث يلتقي الماء بالقصب وتتعانق سماء ذي قار مع انعكاسات الغروب على المسطحات المائية، تقف قرية (أبو سوباط) شاهدة على إرث طبيعي وثقافي قلّما يوجد له مثيل.
هذه القرية الصغيرة، الواقعة على بعد تسعين كيلومترًا شرقي مدينة الناصرية، أصبحت اليوم في دائرة الضوء بعد أن باشرت الجهات المعنية في ذي قار إجراءاتها بترشيحها ضمن مبادرة أفضل 1000 قرية سياحية في العالم، التي أطلقتها منظمة السياحة العالمية منذ عام 2021.
فالترشيح ليس مجرد خطوة إدارية، بل فرصة لإبراز العراق على خريطة السياحة العالمية، والتعريف بثراء مناطق الأهوار التي تمثل بيئة فريدة تحافظ على التنوع البيولوجي، وتُظهر قدرة المجتمعات المحلية على التعايش مع الطبيعة بطرق مستدامة. (أبو سوباط)، بمعمارها التقليدي، ومزارع الأسماك المحيطة بها، ومجتمعاتها التي تمارس الحِرف اليدوية منذ أجيال، تقدم تجربة سياحية متكاملة لكل من يبحث عن الطبيعة والتاريخ والثقافة.
كنوز سياحية
العراق بلد غني بالمواقع السياحية التي تعكس حضارات متعاقبة، ففي الشمال، تمتد جبال كردستان المزدانة بالغابات والشلالات مثل بيخال وكلي علي بك، ويقصدها السياح للاستجمام والتمتع بالطقس البارد في الصيف.
وفي الوسط والجنوب تنتشر المدن المقدسة ككربلاء والنجف والكاظمية وسامراء، التي تجذب ملايين الزوار سنويًا وتشكل عمودًا أساسيًا في السياحة الدينية.
أما الموصل ونينوى وبابل وأور، فهي متاحف حية تروي قصص سومر وأكد وبابل، من الزقورات الضخمة إلى المعابد القديمة، مرورًا بالمكتشفات الأثرية التي تؤرخ لبدايات الكتابة والقوانين البشرية.
ولا يمكن إغفال الأهوار العراقية، التي أُدرجت على لائحة التراث العالمي لليونسكو عام 2016. فهي ليست مجرد مسطحات مائية، بل نظام بيئي متكامل يحتضن طيورًا نادرة، وأنواعًا متعددة من الأسماك، وجواميس الماء، إضافة إلى مجتمعات بشرية عاشت في انسجام مع الطبيعة لقرون. زيارة الأهوار تمنح تجربة غير تقليدية، حيث التنقل بالقوارب التقليدية، ومشاهدة المناظر الطبيعية البكر، والتعرف على أساليب حياة السكان المحليين.
هوية الأهوار
تجسد (أبو سوباط) هوية الأهوار بكل تفاصيلها؛ من مضايف القصب التي تستقبل الزوار، إلى أنشطة صيد الأسماك وركوب القوارب الصغيرة، وصولًا إلى الحرف اليدوية التي تمارسها النساء وتسهم في اقتصاد الأسرة. وقد أكملت لجنة محلية بالتنسيق مع الجهات المختصة في بغداد المتطلبات البيئية والخدمية لتجهيز القرية لاستقبال السياح من مختلف أنحاء العالم، بما يتوافق مع معايير المبادرة الدولية.
في هذا السياق، عقدت رئيسة لجنة الزراعة والموارد المائية في مجلس محافظة ذي قار، المهندسة زينب الأسدي، اجتماعًا موسعًا بحضور معاون المحافظ لشؤون التخطيط، وقائممقام الجبايش، ومدير السياحة، وممثلي الجهات المعنية، جرى خلاله بحث سبل تطوير ملف الترشيح، ومعالجة التحديات البيئية، خصوصًا انخفاض مناسيب المياه وجفاف بعض مناطق الأهوار. وأكد المجتمعون على أهمية حماية التنوع البيئي وضمان استدامة الموارد الطبيعية، مع الاتفاق على تشكيل لجنة تنفيذية مختصة لمتابعة تنفيذ الخطط وتقديم الدعم اللازم لإنجاح المشروع.
بدوره، قال مدير قسم السياحة في ذي قار، أسعد حسين القره غولي، إن لجنة محلية تشكلت لهذا الغرض بالتنسيق مع لجنة مركزية في بغداد، لاستكمال البيانات وتوفير متطلبات الترشيح، بما يشمل الجوانب البيئية والخدمية والأمنية.
وأضاف أن (أبو سوباط) تمثل القرية الوحيدة المرشحة عن الجنوب العراقي في هذه الدورة، إلى جانب قرى أخرى من كربلاء وإقليم كردستان.
رافعة للتنمية
تشير التجارب العالمية إلى أن القرى الصغيرة يمكن أن تتحول إلى محركات اقتصادية. ففي المغرب وإسبانيا واليابان، تحولت قرى نائية إلى وجهات سياحية تجذب آلاف الزوار سنويًا، ما ساعد على توفير فرص عمل للشباب والنساء، وإحياء الصناعات التقليدية. الأردن أيضًا مثال حي على نجاح السياحة البيئية، حيث وفرت هذه المشاريع أكثر من 160 ألف فرصة عمل، فيما حوّل مشروع واحد مثل (فندق فينان البيئي) منطقة نائية إلى مركز جذب عالمي.
أما عالميًا، فقد بلغ حجم سوق السياحة الريفية نحو 29 مليار دولار عام 2024، ومن المتوقع أن يتجاوز 67 مليار دولار بحلول 2035، وهو ما يعكس الطلب المتزايد على التجارب الطبيعية والثقافية المستدامة، ويفتح آفاقًا جديدة أمام القرى العراقية مثل (أبو سوباط).
تجارب العالم
النجاح لا يتحقق من خلال البنية التحتية وحدها، بل عبر إشراك المجتمعات المحلية، وتوفير الدعم المستمر، وتشجيع الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة، والاستفادة من الخبرات الدولية في التدريب والتسويق.
العراق يمتلك كل المقومات ليعيد اكتشاف نفسه من جديد من خلال (أبو سوباط)، وما يشبهها من قرى ومناطق طبيعية.
وجهة عالمية
(أبو سوباط) ليست مجرد تجمع سكاني في قلب الأهوار، بل رمز لإمكانية أن يصبح العراق وجهة سياحية عالمية. نجاح ترشيحها وتطويرها قد يشكل بداية لمسار جديد يعزز مكانة البلاد سياحيًا، ويمنح سكانها فرصًا اقتصادية وثقافية متجددة. ومع بزوغ الفجر، حين يتناثر الضباب فوق صفحة الماء وتتحرك المشاحيف بهدوء بين ممرات القصب، تبدو (أبو سوباط) لوحة مرسومة بريشة فنان عالمي؛ أصوات الطيور تملأ السماء، ورائحة الطين المبلل تروي حكاية المكان، فيما يلوّح الأطفال للصيادين العائدين بشباك ممتلئة. هناك، حيث تلتقي الطبيعة بالإنسان في تناغم أبدي، يدرك الزائر أن السياحة ليست مجرد رحلة عابرة، بل تجربة حياة كاملة تنقله إلى عمق الروح العراقية.