100%
زياد الهاشمي /
يمتلك العراق، مهد الحضارات الإنسانية، إمكانات سياحية هائلة تجمع بين التراث التاريخي والتميز الجغرافي والتنوع الثقافي، تؤهله لإن يكون قبلة عالمية للسياح والزوار والمصطافين، ووجهة سياحية لكل من يريد التعرف على حضارات العالم.
يضم العراق بين جنباته أكثر من 12,000 موقع أثري، من بابل وأور ونينوى إلى الموصل وسامراء وبغداد وغيرها الكثير، وهي كنوز تاريخية مدرجة جزئيًا ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، تحكي تفاصيل حضارات سادت ثم بادت وتركت إرثًا ضخمًا وشواهد تاريخية لا مثيل لها في هذه الدنيا، من حضارات سومر وأكد وبابل وآشور والكلدانيين والعصر الإسلامي بكافة عهوده ومراحله، وصولًا الى العصر الحديث ونهايات الحقبتين العثمانية والإنكليزية. إضافة إلى ذلك، تتمتع مدن مثل أربيل والسليمانية بمناظر طبيعية خلابة تشمل الشلالات والجبال، ما يجعلها وجهات مثالية للسياحة، وخصوصًا لو أضفنا لها الأهوار الجنوبية التي تُعد نموذجًا فريدًا للسياحة البيئية. كما أن السياحة الدينية، التي تتركز في مدن النجف وكربلاء وسامراء والكاظمية، تعد واحدة من قطاعات الجذب السياحي المهمة التي تميز العراق عن بقية البلدان، إذ إنها تسهم بدخول ملايين الزوار سنويًا لزيارة المراقد الدينية والمزارات التي تحظى بمكانة كبيرة لدى مجتمعات كثيرة.
واقع صعب
بالرغم من هذه المميزات التي تميز العراق تاريخيًا وحضاريًا وجغرافيًا عن غيره، إلا إن قطاعه السياحي لايزال يواجه واقعًا صعبًا، بسبب اندلاع الحروب والعقوبات الاقتصادية والنزاعات والاختلالات الأمنية طوال عقود، أدى الى تراجع كبير وانخفاض واضح في أعداد السياح خلال فترتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وحتى السنوات الخمس عشرة الأولى من الألفية الجديدة. وفي الوقت الحاضر، تُظهر إحصائيات هيئة السياحة العراقية أن 6.4 مليون سائح زاروا البلاد في عام 2025، وهو رقم كبير يشكل قفزة كبيرة في الأعداد، لكن الإيرادات المالية لم تُستوفَ إلا من 350 ألف سائح فقط، وهو أداء مالي ضعيف أسهم في ضعف مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي العراقي، بنسبة لا تتجاوز 3 % حتى في أفضل الظروف.
تحديات عدة
لا يختلف اثنان على أهمية القطاع السياحي في دعم مسار النهضة الاقتصادية العراقية، والمساهمة في تحقيق هدف زيادة تنويع المصادر المالية غير النفطية، لكن هذا القطاع يواجه تحديات عدة، أبرزها استمرار غياب قطاع السياحة عن سلم الأولويات الرسمية، وغياب الرؤية لتطوير هذا القطاع، وغلبة الفهم والتعاطي البيروقراطي في إدارة هذا القطاع، والتعامل مع الجوانب السياحية وكأنها مجرد نشاطات حكومية روتينية لا تخضع إلى مراحل تطوير مدروسة بأهداف واضحة، ما أدى إلى أن المواقع الأثرية اليوم لاتزال تعاني من الإهمال وسوء الصيانة، بينما تفتقر المناطق السياحية البيئية، مثل الأهوار، إلى الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء والاتصالات والنقل السياحي. كما أن البنية التحتية السياحية تعاني من ضعف واضح، إذ يبلغ عدد الفنادق في العراق نحو 870 فندقًا في عام 2025، وهو عدد غير كافٍ مقارنة بحجم الإمكانات السياحية وانتشار مواقعها على كامل الجغرافيا العراقية. إضافة لذلك، لاتزال النظرة السلبية عن العراق ووضعه الأمني سائدة لدى العديد من الشعوب والمجتمعات الأخرى، فتحذيرات السفر من دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا لاتزال نافذة، ويجري تجديدها كل فترة، ما يؤثر سلبًا على تدفقات السياح لزيارة العراق.
سياسات تحفيزية
تجارب دول شبيهة مجاورة أثبتت أن السياحة يمكن أن تتحول إلى قاطرة للتنمية، فالأردن مثلًا، تضاعفت فيها مساهمة القطاع السياحي ثلاث مرات خلال عقود بفضل سياسات تحفيزية متكاملة، وبنسبة 12 % من الناتج المحلي الإجمالي، فيما تحوّلت تركيا خلال أقل من ربع قرن إلى إحدى الوجهات السياحية العشر الأولى عالميًا، وبمساهمة سياحية تصل الى 14 % من الناتج المحلي، اعتمادًا على خليط من التشريعات الجاذبة والاستثمار في البنية التحتية وتطوير المنتج السياحي بمزيج من الأصالة والتجديد.
لذلك، فإن فرصة العراق لاتزال كبيرة لتنمية سياحته، خاصة مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية لعام 2025، ما يمثل رسالة هامة للعالم حول عودة البلاد إلى الواجهة. ولاغتنام هذه الفرصة ينبغي التحرك نحو اعتماد ستراتيجية سياحية وطنية ترتكز إلى رؤى بعيدة المدى، تشترك في تنفيذها وزارات التخطيط والسياحة والثقافة والنقل والمالية والتجارة، إلى جانب دعم الأمن والاستقرار في المناطق السياحية وتسويق صورة العراق كبلد مضياف وآمن عبر الإعلامين المحلي والعالمي. ويتطلب ذلك تطوير حقيقي للبنية التحتية بداية بتحسين المطارات والطرق والمرافق الفندقية، وتحديث خدمات النقل وتجهيز المواقع التراثية، وتأهيلها وفقًا للمعايير الدولية من حيث الجاذبية والخدمات.
جذب الاستثمار
لتحقيق تلك الأهداف بشكل فعال، فإنه من المهم تحفيز القطاع الخاص وجذبه للاستثمار السياحي عن طريق سن قوانين ضامنة وتشريعات وأنظمة محفزة للاستثمار، وتقديم تسهيلات ضريبية ومالية، إلى جانب الشراكة الفاعلة مع المستثمرين في إدارة وتشغيل وتسويق المرافق السياحية وتطويرها بما ينسجم مع الستراتيجية الوطنية. كما يتوجب تنويع المنتج السياحي بدلًا من الاكتفاء بالتركيز على السياحة الدينية فقط، والعمل على رفع جودة السياحة البيئية والتراثية والترفيهية وحتى العلاجية، وربط المواقع الحضارية والطبيعية العراقية بمسارات سياحية إقليمية ودولية من خلال فعاليات ومعارض وورش عمل داخل وخارج العراق، إلى جانب تعزيز الموارد البشرية وتدريب الكوادر الشابة على إدارة وتشغيل منشآت السياحة والضيافة. وهذا يعتبر عنصرًا أساسيًا لخلق آلاف الوظائف وتقليل نسب البطالة بين الشباب، فضلًا عن تمكين المرأة لتعزيز مشاركة الموارد البشرية الوطنية في التنمية الاقتصادية. وأخيرًا، تسهيل إجراءات الدخول بإعطاء تأشيرات عند الوصول لدول أكثر، وتبسيط إجراءات عبور المنافذ الحدودية للمجموعات السياحية.
تعزيز الإيرادات
إن النهوض بقطاع السياحة سيمثل نقطة تحول مركزية للعراق وسيسهم، ليس فقط بتعزيز الإيرادات وخفض الاعتماد على النفط، بل بتحريك قطاعات موازية كالنقل، والمطاعم، والفنادق، والعقارات، فضلًا عن توظيف آلاف الشباب وتحسين سمعة البلاد وترسيخ صورتها كبلد ينتمي للإنسانية والحضارة. إن ما يحتاجه العراق اليوم هو إرادة سياسية وستراتيجية وطنية متماسكة واستثمار واعٍ في الفرص المتاحة، حتى يعود بلد الحضارات إلى خريطة السياحة العالمية، ويستثمر موارده البشرية والطبيعية ليحقق مستقبلًا أكثر إشراقًا واستدامة.