100%
نرمين المفتي
"الصحفي الحقيقي لا يمتلك رفاهية الصمت، حتى لو كان ثمن الكلام حياته." جبران تويني
في غزة، لا يحتاج الصحفي إلى تعريف. يكفي أن يحمل كاميرا، مايكروفون، أو دفترًا، ليصبح هدفًا معلنًا. منذ بدء حرب إبادة غزة، ارتقى، حتى كتابة هذا المقال، 249 صحفيًا وصحفية، في حصيلة لم يعرف لها العالم مثيلًا في أي نزاع معاصر. اغتيلوا مع سبق الإصرار والترصد، لأنهم يرون، ويصرون على أن يفتحوا نافذة للعالم على الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب على مدار الساعة في غزة.
كل صحفي شهيد هو صفحة أُحرقت من كتاب الذاكرة الفلسطينية. لكن رغم الفقد، يظل الحبر حاضرًا، تكتبه دماء من رفضوا أن يكونوا شهود زور. الصحفي في غزة لا يسأل إن كان سيبقى حيًا، إنما يسأل إن كانت صورته وصوته يصلان إلى العالم قبل أن يطفئوا الضوء في عينيه؟
وبعيدًا عن غزة، جاءت أصوات لم تتركهم وحدهم. مؤسسات إعلامية كبرى، ومنظمات مثل (مراسلون بلا حدود)، ولجنة حماية الصحفيين، رفعت الصوت أن "الصحفيين ليسوا أهدافًا." مئات الصحف والمواقع حجبت صفحاتها الأولى لتتركها بيضاء، صرخة صامتة تذكر بأن الفراغ الذي يخلفه غياب الصحفي هو فراغ في ضمير العالم كله. وفي عواصم ومدن غربية عديدة علّقت لافتات، وفي كل مكان ارتفعت الأسئلة: لماذا يقتل الصحفي لمجرد أنه يروي؟
لقد شعرت بأن واجبي الإنساني والأخلاقي يحتم عليّ ألا أكتفي بالكتابة وحدها، بل أن أشارك في هذه الحملة التضامنية، وأن أكون صوتًا من خلال كلماتي. ومن هنا أعلن عن رغبتي في التوجه إلى غزة، لأقف مع الزملاء الصحفيين، وأشهد بنفسي على ما يحاول العالم أن يغلق عينيه عنه، ولأؤكد أن التضامن لا يكتفي بالكلمة، بل يحتاج الحضور والعمل. 259 صحفيًا ليسوا أرقامًا، هم أصوات وأسماء ووجوه وأحلام، أرغموا على المغادرة مبكرًا. هم رسائل حاولت الوصول إلى وجدان العالم، وإن لم نحفظ دمهم كذاكرة حية، فسنكون شركاء في الجريمة.
الحملات الدولية مهمة، نعم، فهي تذكير بأن العالم ما يزال يملك بعض الضمير. لكنها وحدها لا تكفي. ما سيبقى خالدًا هو صورة الصحفي الفلسطيني وهو يركض بين الركام ويبث كلماته الأخيرة قبل أن ينقطع الصوت. ويتداول الصحفيون الفلسطينيون فيما بينهم أن "دم الصحفي هو الحبر الأخير الذي يكتب به التاريخ."