سوق مريدي".. حكاية الفقراء التي صمدت بوجه الزمن "

تحقيقات

سوق مريدي".. حكاية الفقراء التي صمدت بوجه الزمن "
100%
وسام عبد الواحد مريدي تصوير/ خضير العتابي - وكالات في مدينة الثورة سابقًا، (الصدر حاليًا)، حيث تتشابك الأزقة والأسواق بحكاياتٍ من زمن مضى، انبثق سوق مريدي كرمزٍ حي للذاكرة الشعبيَّة التي يصعب محوها. تأسس هذا السوق على يد الحاج مريدي الفرطوسي، الذي وضع حجر الأساس لمحل صغير في قلب سوق شعبي بات اسمه يترددُ حتى خارج حدود العراق، ليس فقط بسبب نشاطاته التجاريَّة، بل لارتباطه الوثيق بأحداثٍ وتاريخٍ معقد. يحكي السوق قصة عراقٍ لم تهزمه الحروب ولا الحصارات، بل تحدّى ظروفًا صعبة وأزماتٍ متتالية، ليصبح ملاذًا لمن سعى للخلاص من الديكتاتورية عبر وثائق أُصدرت من هنا، ووثّقت حياة آلاف العراقيين الذين غادروا بلادهم بحثًا عن الأمان. بالرغم من محاولات الحكومات المتعاقبة تغيير أسماء المدن والأحياء، وسعيها الحثيث لمحو آثار الماضي، بقي سوق مريدي علامة فارقة في ذاكرة السكان، شاهدًا على مقاومة شعب لم يرضَ أنْ تُمحى جذوره. من هو مريدي؟ في ناحية العدل التابعة لقضاء المجر الكبير في محافظة ميسان، جنوبي مدينة العمارة، وُلد الحاج مريدي شحيت عويد مطرود الفرطوسي، في العام 1889. لم يكن يدري أنَّ اسمه، الذي اختصره الناس بمحبة وتقدير، سيتحوّل يومًا ما إلى واحدٍ من أشهر الأسواق الشعبيَّة في العراق، وربما في الشرق الأوسط كله، بل إلى أيقونة للذاكرة الشعبيَّة التي لا تموت. سرد لي والدي الراحل عبد الواحد مريدي قصة والده الحاج مريدي، أنَّ والده نزح من لواء العمارة (محافظة ميسان حاليًا) باتجاه بغداد في ثلاثينيات القرن الماضي، ومبررات النزوح هي البحث عن حياة أفضل من تلك التي كان يعيشها الفلاحون في ظل سطوة الإقطاع هناك. ولقلة فرص العمل في العاصمة تطوع مريدي في القوات المسلحة ليصبح جنديًا في الفوج الثاني التابع للواء الثاني، واستمرَّ في الخدمة لمدة 10 سنوات. بعدها استقال من الجيش وتطوع في سلك الشرطة، لتستمر خدمته فيها حتى العام 1948، ليصدر بعدها بعام بحقه مع مجموعة من زملائه الشرطة كتاب عدم الحاجة، ليعدّوا فائضين. فكانت رحلته الجديدة في حياة مختلفة وصعبة بعد أنْ فقد وظيفته، ليمارس بعدها مهنة الزراعة في منطقة التاجي، ثم أبو غريب، بعد أنْ ضمن قطعة أرضٍ من الدولة. وكان أبناؤه يساعدونه في زراعتها، ثم بعدها امتهن البيع والشراء والعمل في الحِرف الشعبيَّة، وظلَّ يتنقل من عملٍ الى آخر، الى أنْ حدث فيضان بغداد العام 1954، لينتقل من منطقة المعامل التابعة لخان بني سعد الى منطقة العاصمة والمعروفة بـ (الشاكرية) في كرخ بغداد، وينشئ فيها محلًا صغيرًا داخل الدار يبيع فيه لأهل المنطقة مختلف المواد البسيطة. حكاية لا تموت وبعد أنْ شرع الزعيم عبد الكريم قاسم بحملة كبرى لنقل مئات الآلاف من سكنة منطقتي (الميزرة والعاصمة)، المؤلفة من أكواخ على مدّ البصر، حيث شيّد لهم مدينة عماليَّة في جانب الرصافة شرقي بغداد، وأطلق عليها (مدينة الثورة)، تيمنًا بثورة تموز من العام 1958، ليحيل حياة فقراء العراق المحرومين من أبسط مقومات العيش الكريم إلى حياة أخرى أقل حيفًا وقسوة، بعد أنْ شرع الجيش العراقي ببناء بيوتٍ صغيرة بمساحة 140 متراً مربعًا، واقتلع أكواخ (الشاكريَّة) في الكرخ ليحيلها الى مدينة عامرة بالأحياء الراقية على أنقاض تلك الأكواخ والصرائف المصنوعة من مواد جلبها الفلاحون معهم من الأهوار وبقايا عهد الإقطاع المنهار. افتتح الحاج مريدي محلًا بسيطًا في قطاع 32 في مدينة الثورة لبيع المشروبات الغازية. كان ذلك المحل نقطة التقاء السائقين والنازحين من الجنوب، وشيئًا فشيئًا، بدأ السوق يتوسع حول دكان مريدي، وبدأت معه الحكاية. كان الرجل، على فقره وطيبته، واسع الصدر، محبوبًا، ومصلحًا عشائريًا. لا تذكره عشائر الجنوب إلا بكل احترام. عرف عنه طوله الفارع، وملامحه الجنوبية الأصيلة، وعصبيته التي جعلت من كنيته (أبو جلوب) تعبيرًا عن شدّة قبضته إذا غضب. تزوج أربع نساء، وخلف أبناءً حملوا اسمه وذكره: (طالب، عبد الواحد، رحيم، كريم). توفي الحاج مريدي في العام 1973، لكن اسمه لم يُدفن معه، بل بقي حيًا، يرفرف فوق سوق مريدي، الذي بات رمزاً للتحدي، للذاكرة، للناس البسطاء الذين يصنعون من العدم حياةً، ومن أسماء الأحياء حكاياتٍ لا تموت. وجهة ودليل يحكي والدي (رحمه الله)، الذي عاش بدايات الحكاية فتىً صغيرًا بعينين مندهشتين من تحوّلات المكان، أنَّ المنطقة التي تُعرف اليوم بسوق مريدي لم تكن سوى أرضٍ زراعيَّة متروكة، قاحلة، بلا ماءٍ ولا كهرباء، ولا حتى طرقٍ معبّدة. مجرد أطرافٍ منسيَّة في مدينة كانت للتو تتشكّل. كان جدي، الحاج مريدي، من أشد الرافضين لفكرة السكن في تلك "البريّة"، كما كان يراها. رجلٌ يعيلُ زوجتين، وأولادًا وأحفادًا، ومطالب بمصاريف لا تنتهي. لكنَّ الضرورة غلبت التردد، والحاجة دفعت نحو المغامرة. فقرر البدء من لا شيء. يقول الحاج رحيم مريدي (أبو حيدر) الابن الثاني للحاج مريدي: "أنشأ والدي محلًا صغيرًا في قطاع 32، بدأه ببيع براميل الماء، تلك التي كانت الأسر تحتاجها لبناء دورها وتروي بها عطشها. شيئًا فشيئًا، تطور المحل، وتحول إلى نقطة بيع للمواد الأساسية: طعام، ومشروبات غازية، وعصائر، وأدوات منزلية بسيطة.. ويضيف "الأمر الذي جعل الكشك محط أنظار، ليس فقط حاجته الوظيفيَّة، بل شخصُ صاحبِه، الحاج مريدي، بروحه القويَّة، وعزيمته، وشخصيته الاجتماعيَّة، التي جعلت من محله مكانًا للقاء السائقين، والنازحين، وشيوخ العشائر، وحتى مختاري المدينة. ومع ازدياد حركة الناس ووقوف السيارات الخشبية قرب المحل لنقل الركّاب إلى قلب العاصمة، أصبح الناس في الباب الشرقي والمعظم لا ينادون إلا بـ(مريدي)... الوجهة، والمعلم، والدليل." وهكذا، من "كشك" صغير للكرزات والسكائر، وُلِد سوق مريدي، لا بقرار حكومي، ولا بتخطيط بلدي، بل بإرادة رجل واحد، وإلحاح الناس على صنع حياة وسط الفراغ. مدينة داخل مدينة وسط ثمانية قطاعات من أصل ثمانين، يتمدد سوق مريدي كإخطبوط تجاري ضخم، يمدُّ أذرعه نحو قطاعات (23، 24، 29، 30، 32، 34، 40، 43)، ويلتحم مع حياة آلاف الأسر التي تشكل نسيج المدينة. ليس مجرد سوق شعبي، بل مدينة قائمة بذاتها، تنبض بمحال وبسطيات تأكل الأرصفة وتمنح الزحام هويته اليومية. في مريدي، لا وجود لسلعة مستحيلة. هنا "كل شيء موجود"، من أسواق الذهب إلى ورش الألمنيوم، من محال الأثاث إلى مبردات الصيف ومدافئ الشتاء. ستجد أيضًا باعة اللحوم والأسماك والدجاج والبيض، وأكوام الخضراوات والحلويات والسكائر، إلى جانب أجهزة كهربائية، وأقمشة، وملابس، وكماليات، وحتى بضائع "البالة". قصة لا تنتهي حاليًا، يبدأ سوق مريدي رحلة جديدة نحو التغيير، السوق الذي لطالما كان ملتقى لألوان الحياة وأصوات الناس، الآن يشهد حركة غير معهودة، إذ تتعالى أصوات إزالة البسطات، وتفتح ممرات جديدة بين دكاكينه المتنوعة. الهدف واضح: تجهيز السوق ليستقبل العجلات الثقيلة للدفاع المدني، كي لا تعيقه دروب البسطات في أوقات الأزمات، ولتسهيل صيانة الشوارع التي تأثرت مع الوقت. الشارع الممتد من ساحة 55 وحتى ميسان قرب مستشفى الإمام علي، سيشهد تحولًا ملموسًا، ليس فقط في شكله، بل في دوره كنبضٍ حيٍ يربط الأحياء ويساعد على توفير الأمان والخدمات للناس. سوق مريدي يستعد لأنْ يكون أجمل، وأنْ يستمر في قصته التي لا تنتهي مع الحياة.

إقــــرأ المــــزيــــــــد

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال
تحقيقات

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي
تحقيقات

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي

حياة بلا تواصل اجتماعي..  هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟
تحقيقات

حياة بلا تواصل اجتماعي.. هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟
تحقيقات

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي
تحقيقات

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"
تحقيقات

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"

أبرز الأخبار

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

قصة إعدام الفنان صباح السهل

قصة إعدام الفنان صباح السهل

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج