100%
وسام مريدي
رحل عن عالم الفن والجمال، الرسام الإيراني الكبير محمود فرشجيان، عن عمر ناهز الخامسة والتسعين، تاركًا خلفه إرثًا بصريًا لا يُشبه أحدًا سواه. هو من رسم لوحة "عصر عاشوراء"، لا بريشة فقط، بل بوجع التاريخ وروح الطف، وصمّم شبّاك ضريح الإمام الحسين (عليه السلام)، كما لو أنه يطرّز بالذهب مشاعر أمَّة. أعلنت أسرة الفنان وفاته، بينما نعاه معهد الفنون في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، واصفًا إياه بـ "الأسطورة".
كان فرشجيان مؤسس مدرسته الخاصة في الرسم الإيراني، ملتزمًا بالشكل الكلاسيكي، لكنه مزجهُ بتقنيات حديثة وسّعت آفاقه. لقد منح هذا الفن روحًا جديدة، وجسّد عبرهُ علاقة تكافلية بين التاريخ والشعر والأدب، مانحًا الرسم الإيراني استقلالية لم يعرفها من قبل.
يُعد تصميم المرقد الخامس للإمام الرضا (ع)، وتصميم المرقد الجديد لسيد الشهداء الإمام الحسين (ع) في كربلاء، من أهم أعمال هذا الفنان المخضرم. وقد نُفذ تصميم المرقد الجديد لسيد الشهداء الحسين (ع) بمهارة صائغي الذهب والفضة الإيرانيين، وكُشف النقاب عنه في قم عام 2012، ثم نُقل إلى العراق.
أعمال خالدة
في ريشته، تماهى الشعر مع الألم، والتاريخ مع اللون، حتى صارت لوحاته مرايا للوجدان. فبغيابه، لا يرحل الجسد فقط، بل تغيب لمسةٌ تشبه القداسة.
رئيس معهد الفنون في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، مجيد شاه حسيني، قال في رسالة تعزية إن فرشجيان كان رسامًا مشهورًا وشخصية خالدة في الفن الإيراني، وإن رحيله جلب الحزن إلى قلوب العاملين في الفنون والثقافة.
وأضاف: بقلمه السماوي ورؤيته المفعمة بالتصوف الإسلامي، دفع الأستاذ فرشجيان الرسم الإيراني إلى ما وراء حدود التقاليد، رافعًا إياه إلى آفاقٍ جديدة. أعماله الخالدة، مثل لوحة "عصر عاشوراء" و"ضامن الغزال"، تجسّد الجماليات الإيرانية، وتجلّي روح الإيمان والمحبة والإنسانية. كان فنانًا خاطب الطبيعة بالألوان والخط، وترك إرثاً لا يُضاهى في تاريخ الفن الإيراني الإسلامي".
رائد "المينياتور" العصري
ولد الفنان محمود فرشجيان عام 1929 في أصفهان، حيث كان والدُه يشجعه على حب الفن منذ الصغر. بدأ مشواره الفني في ورشة الرسام الشهير ميرزا آقا إمامي، ثم درس في معهد أصفهان للفنون الجميلة تحت إشراف الأستاذ عيسي بهادري. تلقى فرشجيان تعليمه في أوربا، إذ استلهم من عمالقة الفن الغربي، وابتكر منهجًا فنيًا يجمع بين التراث الإيراني الإسلامي والتقنيات المعاصرة، محاولًا تحرير الرسم من ارتباطه المباشر بالأدب والشعر .أسّس بذلك مدرسة فنية فريدة تعتمد على فن المينياتور (المنمنمات)، هي مزيجٌ بين التقليد والحداثة، ليترك بصمة لا تُمحى في عالم الفن الإيراني والعالمي، مؤثرًا في أجيال الفنانين حتى اليوم.
بعد عودته إلى إيران، تولى محمود فرشجيان إدارة دار الفنون الجميلة العامة في طهران وأصبح أستاذًا في كلية الفنون الجميلة بجامعة طهران. تميزت رسوماته المنمنمة بحركات مدورة ديناميكية، تجمع بين الجمال والدقة، مستلهمة من روائع الرسامين التاريخيين، مثل بهزاد وسلطان محمد.
لمسة فريدة
يصف البروفيسور إلينور أسميز أعمال فرشجيان بأنها أكثر حيوية، إذ تدور الملامح الطبيعية والكائنات الأسطورية في دواماتٍ متناسقة، ما أضفى على فنه لمسة فريدة تجسدت أيضًا في فنون القاشاني وحياكة السجاد الإيراني التقليدي.
يرى الراحل محمود فرشجيان أن الرسم الإيراني فن ينبع من مخيلة الفنان وروحه، لا مجرد تصوير موضوعي للواقع، كما في فنون شعوب أخرى مثل الصين. فالفنان الإيراني يعبّر بريشته عن الأحاسيس الروحية العميقة والمشاعر السامية التي تنبع من اللاوعي الإنساني. في أعمال فرشجيان، نجدُ تجسيدًا لتلك المشاعر الدقيقة، من أصوات الطيور وهمسات الطبيعة، وصولًا إلى تأملات الإنسان الداخلية. وقد نُشرت لوحاته في عدة مجلدات فنية متميزة، وصدرت بعض أعماله المختارة ضمن إصدارات منظمة اليونسكو، الأمر الذي يعكسُ مكانته الفنية العالمية.
حيوية واتساع
الدكتور الأكاديمي عبد الخالق حسن، وصف أعمال الرسام الإيراني محمود فرشجيان بأنها مزيج رائع من الأصالة والابتكار، إذ تأثرت أعماله بالشعر الكلاسيكي، والأدب الفارسي، والقرآن الكريم، والكتب المقدسة، فضلًا عن خياله الواسع.
أضاف حسن في حديثه لـ "الشبكة العراقية": اتسمت لوحات فرشجيان القوية والمبتكرة بالحيوية والاتساع، بمزيج جذاب من العناصر التقليدية والحديثة، التي شكلت عناصر أسلوبه الفريد في الرسم. ومن بين مواهبه حسّه الإبداعي الاستثنائي، وزخارفه المتحركة، وقدرته على خلق مساحات دائرية ومنحنية، وخطوطه الناعمة والقوية، وألوانه المتموجة. لقد لعب الراحل دورًا مهمًا في تعريف الفن الإيراني بالساحة الفنية العالمية.