"صور تذكارية" تهكّم الذاكرة.. محاكمة الصورة

زياد جسام في فضاء (قاعة سلام عمر) ببغداد، افتتح الفنان التشكيلي علي كريم معرضه الشخصي الأول، الذي حمل عنوان (صور تذكارية)، مقدمًا مجموعة من الاعمال التعبيرية المتحررة من أطرها التقليدية، عبر اسلوب يمزج بين السخرية والمرارة، وبين الكثافة اللونية والعنف البصري. ضم المعرض عددًا من اللوحات الكبيرة الحجم، تجاوز بعضها قياس المترين، ما منح المتلقي شعورًا بالهيمنة المادية للصورة، وكأنها لا تكتفي بالمشاهدة البصرية، بل تريد أن تحاصر المتلقي داخلها في مساحات صارخة الألوان. رسم علي كريم شخصيات عسكرية وقادة يرتدون بدلاتهم العسكرية المزينة بالأوسمة وأنواط الشجاعة، إلا أن المفارقة تكمن في أن هذه البدلات لم تكن بلونها المعروف فقط، بل اتخذت ألوانًا مختلفة، فاقعة، زاهية، غير منسجمة مع رمزية الزي العسكري، لتصبح رمزًا للعبث والتزييف ولعب الأدوار الزائفة في مشهد القوة والبطولة. مفاتيح القراءة النص التعريفي لهذا المعرض حمل مفاتيح القراءة الأساسية للعمل: "صور تذكارية تتهكم بمنزلة المحاكمة لما آلت إليه مصائرنا، أضحت -أخيرًا- صورًا نتهكم بها ونضحك من وزن أنواطهم ونياشينهم وسيوفهم، التي هي الآن ليست أكثر من (خردة) عفا عليها الدهر." بهذا النص، يضع الفنان المشاهد أمام سؤال الذاكرة والتمثيل، ترى ماذا بقي من رموز البطولة بعد أن تحولت إلى صور؟ وإلى أي مدى يمكن للّوحة أن تكون مساحة محاكمة رمزية للزمن، ولمن تصدروا واجهة السلطة والحرب؟ في المستوى الفني، يعتمد علي كريم على تكوينات صلبة تبرز الشخصيات في مركز اللوحة، وأحيانًا تأخذ مساحة اللوحة بالكامل، كأنها صورة تذكارية لمجموعة من الشخصيات في مشهد مألوف. إلا أن هذا المشهد يحول موضوع البطولة إلى شيء من السخرية، مثل ارتداء قفازات الملاكمة لبعض الشخصيات القادة، بينما تتلاشى الخلفيات في ضباب من الألوان المبعثرة بشكل عفوي. هذه المفارقة في اللوحات المذكورة تشكل جزءًا من الخطاب البصري للمعرض، إذ تضع بين يدي المتلقي توترًا جماليًا بين الاعجاب بتقنيات التنفيذ والنفور من الموضوع. التجربة توحي بأن الفنان لا يبحث عن الشكل بقدر ما يريد أن يستفز ذاكرة المتلقي. تعبيرية رمزية تبدو الألوان الصارخة هنا كأنها محاولة لتجريد الرتبة العسكرية من هيبتها التاريخية، وتحويلها إلى زينة شكلية، فارغة من المعنى. فحين يقدم القائد ببدلة وردية، أو بكتف تحمل نياشين بلا قيمة، فإننا امام تفكيك ساخر لصورة القوة التي تعودت الشعوب على مشاهدتها في حياتهم اليومية. يمكن القول إن المعرض ينتمي إلى مدرسة التعبير الرمزي النقدي، وهي امتداد لاتجاه عالمي استخدم التهكم السياسي والاجتماعي أداة فنية. لكن ما يميز تجربة علي كريم هو أنها تهكم محلي، يستمد لغته من الواقع، ومن مرارة التكرار في الذاكرة الجمعية. فالصور التذكارية ليست مجرد استعارة، بل هي وثيقة يومية، تلاحق المتلقي في بيته ومؤسساته ووسائل إعلامه، حتى أصبحت رمزًا لاستمرار الماضي في الحاضر. الفكرة والتكوين في هذا المعرض، يبدو الفنان كمن يستدعي شخوص التاريخ القريب للمساءلة، لكنه لا يفعل ذلك بصرامة المؤرخ، بل بخفة الرسام الساخر، الذي يعرف أن اللوحة تستطيع أن تقول ما تعجز عنه اللغة. ولعل هذا ما يجعل أعماله تقترب من روح الكاريكاتير السياسي، لكن دون أن تقع في فخ المباشرة، إذ يحافظ على بعد تشكيلي يجعل كل لوحة قائمة على توازن بين الفكرة والتكوين. في النهاية، يشكل معرض (صور تذكارية) وقفة جمالية ووجدانية في مسار التشكيل العراقي المعاصر، فهو محاولة لاستعادة الضحك من قلب المأساة، وتحويل الرموز المثقلة بالهيبة إلى أجساد من لون وذاكرة وغبار. إنه مشروع بصري يفتح باب التساؤل عن علاقتنا بما كنا نعده مجدًا، وعن كيف تحول المجد ذاته إلى صورة نعلقها على الجدران.. للذكرى فقط.