اللون بين الذاكرة والجمال.. ""ضياع في حفر الباطن"

فنون

اللون بين الذاكرة والجمال.. ""ضياع في حفر الباطن"
100%
مهدي طالب* لطالما كان اللون في السينما أكثر من مجرد عنصر بصري، فهو قبل أن يُعدّ عنصرًا جماليًا للصورة، كان ذاكرةً ومزاجًا، وأحيانًا بيانًا سياسيًا خفيًا. تحدث سيرجي آيزنشتاين في كتابه (الإحساس السينمائي) عن اللون ودوره في السينما، باعتباره أداة تعبيرية متكاملة، لا مجرد زينة بصرية، مبيّنًا أن "استخدام ألوان معينة سوف يساعد على خلق أثر مباشر على المشاهد، والفكرة هنا أن ألوانًا معينة تضفي تأثيرات نوعية على المشاهد، وقد برهن على ذلك ارتباط الأصفر بالخطيئة." في هذا الاقتباس يرى (آيزنشتاين) اللون كوسيط روحي، يُثيرالمشاعر كما تفعل الموسيقى أوالشعر. في الواقع، هناك علاقة قوية بين الألوان والمشاعر البشرية. وتُعرف هذه العلاقة باسم (علم نفس الألوان)، إذ يمكن أن تؤثر على حالتنا المزاجية بطرق مختلفة. تجربة نفسية في تجربتي الإخراجية لمسلسل (ضياع في حفر الباطن) المأخوذ عن رواية عبد الكريم العبيدي، وسيناريو وحوار الكاتب والروائي أحمد سعداوي، ومن إنتاج شبكة الإعلام العراقي، تناولت فيه التجربة النفسية والإنسانية لضياع الجنود العراقيين في الصحراء خلال انسحابهم في حرب الخليج 1990، وما حدث قبل هذا التاريخ وبعده. لم يكن اختيار اللون مجرد قرار بصري أومسألة تتعلق بالإضاءة والعدسات، كان اللون وتحديدًا (اللون الزيتي الكاكي)، أو كما يسمى بالدارجة (الزيتوني)، اعترافًا لا يُكتب، نسج في العوالم البصرية للمسلسل صرخة مخنوقة ومحاولة لقول ما لا يُقال عن مرحلة من تاريخ العراق، مرحلة لم تكن رمادية كما يُخيل للبعض بل (زيتونية) بامتياز. عسكرة الحياة كنت، وما زلت، مؤمنًا أن ما حدث بعد عام 1979 في العراق، لم يكن تحوّلًا سياسيًا عابرًا، بل مشروعًا شاملاً لعسكرة الحياة، دخل إلى المدارس، والمنازل، ولغة الإعلام، وانعكس حتى على نبرة الصوت في الشارع، وكان بداية لتحويل المجتمع إلى ثكنة عسكرية، لم يكن اللون فيها مجرد تفصيل عابر، إذ أصبح هوية بصرية لمرحلة كاملة، ابتداءً من مصطلح (الطلائع)، و(الفتوة)، وانتهاءً بمراكز تدريب الطلاب. كان اللون الزيتي، اللون الرسمي للخوذة، للبزة العسكرية، للرتبة، وحتى لجدران المؤسسات العامة، حتى أن الشوارع العامة كانت لاتخلو من أناس كانوا يرتدون سترات عسكرية لتقيهم البرد في فصل الشتاء. لكنه لم يكن يوحي بالقوة، بل بالخوف، بالسيطرة، بالاختناق. ذاكرة شعب لذلك، حين قررت أن يكون هذا اللون وتدرجاته هو الطيف المسيطر في مسلسل (ضياع في حفر الباطن)، كنت أبحث عن إعادة خلق المناخ، لا الديكور فقط، بل عن إعادة تجسيد الطابع البصري لحقبة عسكرة كاملة أو، كما ذكرت سابقا، (الهوية البصرية) التي امتدت في النفس والذهن قبل أن تمتد في الجغرافيا. ما أردته هو أن يصبح اللون جزءًا من السرد للحكاية. لا الاكتفاء بدورالخلفية، بل أن يتقدّم إلى مقدمة الكادر كعنصر من عناصر الحكاية. في كل مشهد، كان اللون (الزيتوني) حاضرًا، في الجدران، والملابس، والإضاءة، والسماء المغبرة، وفي ملامح الشخصيات. لم يكن ذلك مصادفة، وإنما إعادة تكوين بصرية لذاكرة شخصية وجمعية. ولإضفاء الإحساس أكثر، طلبت من الإدارة الفنية أن يضعوا داخل مواقع التصوير فوهات قنابل مدفعية منفلقة، تلك التي اعتدنا أن نرى في فوهاتها الفارغة ورودًا من (البلاستك) بألوان مختلفة تزين غالبية بيوت العراقيين، هل رأيت يوماً أن زينة البيوتات هي فوهات قنابل فارغة، أو رصاص حي لمختلف أنواع الاسلحة المتوسطة توضع فوق شاشة التلفزيون؟ تلك ليست تفاصيل بصرية او إنتاجية، بل شظايا من ذاكرة شعب، كان علينا أن نظهرها عبر الشاشة. دلالة رمزية اللون في السينما والتلفزيون لا يُستخدم فقط للجمال. بل كلغة قائمة بذاتها، له طيف دلالي رمزي ونفسي وثقافي. في أعمال مخرجين مثل (ويس أندرسون)، تتحوّل الألوان إلى شعر بصري منسجم، حيث الأصفر يوحي بالحنين، والوردي بالهروب، والأزرق بالوحدة. أما في أعمال أكثر سوداوية، مثل فيلم "Schindler’s List"، فاستخدم اللون بشحّ شديد ليكثّف المعنى، الطفلة بالمعطف الأحمر لم تكن مجرد طفلة، بل رمز للبراءة الهاربة وسط الرماد. في مسلسل (Breaking Bad)، كل شخصية ارتبطت بلون تقريبًا، والتر وايت بالأخضر، لون المال، والتحول، والسمّ، وفيه كان اللون بوصلة سردية ونفسية. حتى في الدراما العربية، التي كثيرًا ما تُتّهم بإهمال البُعد البصري، بدأت تظهر محاولات واعية لاستخدام اللون كرمز. في (لعبة نيوتن) على سبيل المثال، لعبت الألوان دورًا بارزًا في مرافقة تحولات الشخصية الرئيسة، من الأبيض الناصع في البداية، إلى الألوان الترابية الثقيلة في ذروة الصراع. لكن التجربة مع (ضياع في حفر الباطن)، لم تكن فقط عن اللون كرمز، بل عن اللون كـوثيقة شعورية. كيف يمكن للكاميرا أن تُصور إحساسًا بالخضوع الجمعي؟ كيف تُعبّر عن زمن كانت فيه اللغة عسكرية، والخطاب عسكريًا، والشارع عسكريًا؟ لم يكن يكفي أن نحكي القصة، كان علينا أن نُحمّل المشهد وزنه النفسي من خلال طيفه اللوني. لغة الألوان في مرحلة ما من التصوير، قال لي أحد أعضاء الفريق: "كل شيء يبدو وكأنه مغطى بطبقة زيتية خانقة." ابتسمت، عندها أدركت أننا اقتربنا مما أردت. اللون الزيتي لم يكن فقط لون المرحلة، بل إحساسها المكثف. اللون، حين يُستخدم بوعي، يتحوّل إلى شريك خفي في الإخراج. وهو أكثر ما ينقل المسكوت عنه، خصوصًا في الأعمال التي تتعامل مع التاريخ، أو مع الذاكرة الجمعية. إنه يضع المتفرّج في المناخ، قبل أن يضعه في القصة. وقد يكون أكثر تعبيرًا من الحوار، وأكثر تأثيرًا من الموسيقى. نحن لا نشاهد بالعين فقط، بل نشاهد بما اختزنته ذاكرتنا من رموز بصرية. كل فرد منّا يحمل قاموسه اللوني الداخلي. بالنسبة لي، كان اللون الزيتي رمزًا للزمن الذي صار فيه الشارع امتدادًا للمعسكر، والبيت امتدادًا للثكنة، والهوية امتدادًا للزي الرسمي. حين تعود لمشاهدة أعمالك بعد سنوات، قد تنسى بعض الجمل من الحوار الذي كتب، وبعض زوايا الكاميرا، لكن ما يبقى هو اللون الطاغي الذي قمت بتصويره وسكن الكادر، يعيش اللون حين يموت كل شيء آخر. ربما لهذا، حين ننسى كل شيء، تظل الألوان تتحدث بلغتنا، تذكّرنا بما كنا عليه، لا بما قلناه، فاللون لا يُرى فقط، بل يُتذكّر. * مخرج تلفزيوني

إقــــرأ المــــزيــــــــد

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال
تحقيقات

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي
تحقيقات

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي

حياة بلا تواصل اجتماعي..  هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟
تحقيقات

حياة بلا تواصل اجتماعي.. هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟
تحقيقات

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي
تحقيقات

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"
تحقيقات

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"

أبرز الأخبار

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

قصة إعدام الفنان صباح السهل

قصة إعدام الفنان صباح السهل

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج