100%
صفاء ذياب
شهد العراق على مدى عقود طوال تأثير النخبة الثقافية على الشارع، في حركات لم تكن وليدة اللحظة في حينها، فالخطابات التي رفعها معروف الرصافي، على سبيل المثال، في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، كانت واضحة في تحرّك حشود كبيرة من المجتمع، فضلًا عن الزهاوي، الذي حاول تقديم العلوم بأشكال مختلفة، ودفاعه عن حقوق المجتمع، وصولًا إلى علي الوردي، الذي ما زال تأثيره واضحًا حتى اليوم على الشباب.
لايمكننا اغفال دور النخبة الثقافية في الخمسينيات والستينيات، التي غيّرت الكثير من توجهات الشارع العراقي، إن كان على مستوى الثقافة أو الوعي الجماهيري. غير أن المتابع يرى أن تأثير النخب الثقافية تلاشى في السنوات القليلة الماضية، وانساق خطابها خلف هوى الجماهير، فنرى أنهم يسيرون خلف خطاب الجماهير، لا العكس، وهذا واضح في السوشيال ميديا والإعلام بشكل عام، فما الذي حدث لنخبنا الثقافية؟
أدوات التعبير
يرى الدكتور محمد عطوان أن النهج التقليدي للسلطة كان يقوم على هرميّة، تبدأ من الأوليغارشية الحاكمة وتنزل إلى القواعد الشعبية المحكومة. ظلَّ هذا الأسلوب سائدًا لمدة طويلة، لكنه لم ينجح في تمثيل المجتمع كله، أو تجاوز حدوده السياسية، برغم قوّته الآيديولوجية. وغالبًا ما ارتبط هذا النموذج بأنظمة ملكية أو فاشية أو نازية، ركّزت على فكرة "القائد الأوحد"، أو الحزب المهيمن.
مع الوقت، تراجع هذا النهج أمام صعود خطاب شعبي جديد، ساعدت وسائل الاتصال الحديثة على نشره، فتحوّل الخطاب من حكر للنخبة إلى مساحة يشارك فيها الجميع. السبب في ذلك أن النخبة التقليدية فقدت قدرتها على السيطرة، بينما أصبح الجمهور يمتلك أدوات التعبير عن نفسه، ما فتح الطريق لهيمنة شعبوية أوسع.
هذا التحول نقل المجتمع من هيمنة النخبة إلى نمط جديد تتقاسم فيه الطبقات العليا والدنيا الرموز واللغة بأنفسهما. لكن هذه الشعبوية لم تبتعد كثيرًا عن خطاب النخبة القديم، بل أعادت إنتاجه بوجه جديد. وهكذا، ظلّت الطبقات الشعبية تعبّر عن احتجاجاتها بالأسلوب نفسه الذي كانت تحتكره النخبة، ما يجعل الرفض الشعبي -أحيانًا- مجرّد وسيلة لإبقاء الوضع على حاله.
شيوع المعرفة
في حين يشير الناقد علي سعدون إلى أن النخبة لم تعد قادرة على التأثير بالجماهير، بسبب شيوع ظاهرة أنّ المعرفة ليست حكرًا عليها، وأنّ بمقدور آخرين أن يقوموا بالدور نفسه الذي كانت تلعبه النخب الثقافية والاجتماعية. وقد منح التطوّر التكنولوجي الجمهور صلاحية أن يقول كلَّ شيء، بدءًا بالخرافة، وليس انتهاءً بالزيف والتزوير للقيم والحقائق التاريخية، الأمر الذي أدّى إلى الوهم الهائل الذي تعيشه الأمم اليوم بتمزقات وتصدعات لا حصر لها.
فضلًا عن أن اصطفاف النخب، بمختلف توجهاتها، وذوبانها في الجماهير، أسهم إلى حدّ كبير بالتبرير للنسق الشعبوي الذي يتسيّد اليوم متن الحياة. كل شيء في حياتنا يذهب إلى الشعبوية، بسبب عدم وجود نوع من المركزية للنخب الفاعلة في المجتمع. وبذلك خسرت النخبة نفسها باستسلامها والتخلي عن دورها الريادي العظيم الذي حقّق نوعًا من التوازن طوال قرون من الزمان. ذلك الذوبان والانصهار مع القطيع بفوضى اجتماعية وثقافية عارمة، ما يسمّيه غوستاف لوبون بـ "ضياع الفرد في الجماعات التي لا تستطيع أن تفكر، وهي خارج المنطق، بسبب ميلها إلى الاندفاع والهياج والسير بعمى اللامنطق."
التقدم التكنلوجي، مثلما هو نتاج تطوّر تقني في موضوعة التواصل وسرعة الحصول على المعلومات والخدمات، هو أيضًا ذو تأثير كبير على ضعف النخبة وانحسار دورها بسبب مساهمته الكبيرة في تسطيح الوعي ونشره ثقافة الاستهلاك المضادة للعمق والمعرفة الحقّة.
ترويض الجماهير
وبحسب الشاعر والتشكيلي مازن المعموري، فإننا غالبًا ما كنا نرى في الصور القديمة النخب الثقافية والأدبية وهي تقود الجماهير في الأوقات الصعبة والثورية، مثل تلك الصور التي تجمع الجواهري العملاق في واحدة من أبهج اللقطات وهو يقف على سُلَّم وتحيطه الجماهير من كل زاوية وهم يستمعون لكلماته العظيمة. ولا أنسى صور معروف الرصافي في الشارع بين الناس والحشود وهو يقرأ الشعر، كما تتبادر إلى الذهن شخصية جميل صدقي الزهاوي وهو يقف مع حركات تحرّر المرأة ودوره الفاعل في تحولات المجتمع، إذ كان غالبية الأدباء والمفكرين والمثقفين تنويريين وفاعلين في محيطهم الاجتماعي، ولك أن تتصور شخصيات أخرى مهمة مثل علي الوردي وغيرهم، والقائمة تطول.
أما اليوم، فقد انتهت هذه الظاهرة منذ 1979، مع صعود الطاغية في العراق وحتى هذه اللحظة، حتى مع وجود حرية نسبية للتعبير، لكن الحقيقة أن الموقف السياسي الشائك، وعدم ثقة الآخرين، بعضهم ببعض، المثقف / الجمهور، فالجمهور يشك بدوافع المثقف وأجنداته، وكذلك الجمهور الذي أصبح ينتمي للطائفة أو العشيرة، ويعدّ كلّ من يحمل خطابًا تنويريًا، إنما هو عدو، وفي الأحوال كلها، فإن السلطة وأدواتها المعقدة اليوم، أصبحت أكثر ذكاءً وقدرةً على ترويض القاعدة الشعبية، وأكثر قدرةً على ترويض الروح الثورية للمثقف، في ظل هيمنة السوشيال ميديا، وقوة الصورة على التأثير في الجموع وتوجيه آرائهم وطموحاتهم، من دون الحاجة للعقل التأويلي، أو شخصيات المثقف الكلاسيكي الذي كان موجودًا في القرن العشرين، بمعنى أننا في سياق تحويل وتدجين وغسل أدمغة عبر وسائل معقدة للغاية، وعليه فقد جرى قتل صورة النخبة الثقافية القديمة في ضوء معطيات الأجهزة المركبة، العابرة للأثير، التي تشكّل أفكارنا وميولنا كلها في العيش والسياسة وغيرها من مرافق الحياة.
ش