100%
عبد العزيز الناصري
لم يكن الشيخ شعلان بن عناد أبو الجون مجرّد زعيم قبيلة، بل كان بصمة واضحة في الذاكرة الوطنية، ووجهًا من وجوه ثورة العشرين التي لم تزل ترويها المجالس في الجنوب بلهجة الفخر. ولد عام 1864 في الرميثة بالمثنى، شيخًا على عشيرة الظوالم من بني حجيم، بين رجالٍ يعرفون أن الكرامة لا تُقاس بالكلمات، بل بالمواقف حين تُختبر الأرض والعرض.
مع دخول القوات البريطانية إلى العراق عام 1917 واحتلالها أراضيه كافة، كان الغضب يتصاعد في المدن، بدأ الشعور بالسخط يتصاعد بين العراقيين، خاصة في الأوساط الدينية والعشائرية. أبو الجون، بفطنته ووزن كلمته بين العشائر، صار صوتًا يذكّر الجميع بأن الاحتلال ليس قدرًا، وأن الأرض لا تُدار بقرار أجنبي. كان يتنقل بين القبائل يحرّض على الصمود، ويزرع بذور التمرّد في كل مجلس يجلس فيه. عُرف عنه أنه كان يتنقل بين القبائل يحثهم على التمسك بالاستقلال، ويرفض الخضوع للإدارة الأجنبية. هذا النشاط أثار حفيظة سلطات الاحتلال، التي رأت فيه خطرًا مباشرًا على استقرار حكمها.
كلمة السر
في صيف 1920، حاولت سلطات الاحتلال إسكات صوته. استدعاه الضابط البريطاني في الرميثة بحجة دَينٍ زراعي، لكن الغاية كانت اعتقاله ونقله إلى الديوانية، بعيدًا عن عشيرته. هناك، على رصيف محطة القطار، أُريد له أن يغيب عن المشهد. لكنه كان يعرف أن الرسائل لا تصل دائمًا بالكلمات. أرسل كلمة السر إلى ابن عمه الشيخ غثيث الحرجان: "عشر ليرات"، عبارة صغيرة حملت معنى أكبر في إشارة إلى ضرورة إرسال عشرة رجال مسلحين على الفور.
في ساعات قليلة، كان 1200 رجل من الظوالم يطوقون المحطة. سقط الحارس، وتحرر الشيخ، وتقطعت أسلاك التلغراف، وخربت خطوط السكة الحديدية، ليمنعوا أي استدعاء سريع للقوات البريطانية. في رسالة صريحة: الجنوب لن يسكت. ومن هناك، اشتعلت ثورة العشرين، لتنتقل من الرميثة إلى مدن أخرى، وتنضم إليها قبائل ورجال دين ووجهاء من كل الطيف العراقي.
معركة الجسر
كان هذا الحدث بمثابة الشرارة الأولى لثورة العشرين، إذ انتشرت أخبار التمرد كالنار في الهشيم، وبدأت القبائل الأخرى تلتحق بالثورة.
بعد تحريره، لم يكتفِ شعلان بالدفاع عن منطقته، بل شارك في التخطيط لعمليات عسكرية ضد مواقع الاحتلال. من أبرز المعارك التي ذُكرت في سيرته أو في سيرة عشيرته معركة الجسر، ومعارك في مناطق الخضر والهليّة والسماوة، حيث تكبد البريطانيون خسائر بشرية ومادية، رغم تفوقهم في العتاد والتنظيم.
وبالرغم من أن بريطانيا استعادت السيطرة في نهاية المطاف باستخدام سلاح الطيران والقوات النظامية، فإن الثورة أظهرت للعالم أن العراقيين قادرون على التنظيم والمواجهة، وأن الاحتلال لن يكون أمرًا مسلّمًا به.
وحتى حين هدأت البنادق، فهم أن النضال السياسي استمرار للميدان. فدخل البرلمان ممثلًا عن لواء الديوانية، بين عامي 1930 و1932، ثم أُعيد انتخابه عام 1937. وظل يدافع عن حقوق الجنوب، رافضًا أية عودة للنفوذ الأجنبي.
وحدة الكلمة
رحل في تشرين الثاني من عام 1941، لكن اسمه ظل حيًا. ابنه، عبد الأمير، واصل الحضور السياسي في مجلس النواب العراقي 1943 - 1947، ما حافظ على حضور العائلة في المشهد السياسي. بينما بقيت قصصه تتردد في الجنوب: شيخ جمع بين شجاعة السلاح ودهاء السياسة، وحوّل لحظة اعتقاله إلى شرارة أضرمت نار الثورة.
يمكن القول إن شعلان أبو الجون لم يكن مجرد شيخ عشيرة، بل كان رمزًا لوحدة الكلمة والعمل المشترك بين مختلف أطياف الشعب العراقي، من عشائر ورجال دين ومدنيين. لقد برز في لحظة تاريخية حرجة، واستطاع أن يحوّل اعتقاله من محاولة لإخماد صوت المقاومة إلى صرخة جمعت الصفوف وأطلقت شرارة ثورة غيرت مسار تاريخ العراق.
أبو الجون، في عيون أهله، لم يكن بطلًا عابرًا، بل رجل أدرك أن الكلمة حين تقترن بالفعل قادرة على قلب موازين التاريخ.