100%
ريا عاصي
ثورة العشرين ليست مجرد ذكرى تسجَّل في كتب التاريخ، بل إنها درسٌ متجدد في معنى السيادة، حين يخرج صوت من الأرض ليقول: "لا". إنها الحدث الذي ذكّر العراقيين مبكراً أن الاحتلال، مهما غيّر شكله، يظل مرفوضاً، وأن وحدة الكلمة يمكن أن تُربك أعظم الجيوش.
نهضة القبائل
يمرّ اليوم أكثر من مئة عام على ثورة العشرين، تلك الثورة التي لم تكن فقط صراعاً بين مستعمِر وشعب، بل صيحة منسية في سجلّ بلدٍ لم يولد رسمياً بعد. كانت البلاد لا تزال خارجة من عباءة الدولة العثمانية، منهكة، بلا حدود واضحة ولا حكم وطني، حين قررت بريطانيا أن تفرض عليها نظاماً إدارياً بارداً، وأن تنصّب حكاماً أجانب بلغة لا تُفهم، وقرارات لا تُناقش.
في حزيران 1920، وبعد أشهر من التذمر الشعبي والتجاهل البريطاني، انطلقت أول شرارة من مسجد في الرميثة. لم يكن هناك مذياع، ولا بيانات ثورية مطبوعة، فقط خطيبٌ حسيني استعاد رمزية كربلاء في وجه الطغيان الجديد. وسرعان ما انتشرت الانتفاضة كالنار في الهشيم، من المشخاب إلى كربلاء والحلة والنجف، مروراً بذي قار والديوانية.
ما ميّز الثورة ليس فقط شموليتها، بل التحالفات غير المسبوقة التي وُلدت فيها: بين شيوخ العشائر وزعماء المدن، بين السُنّة والشيعة، وبين الفلاحين والمثقفين. كانت المعركة على جبهات متعددة، عسكرية في الصحارى، وسياسية في المؤتمرات، وروحية في المجالس الحسينية.
وثائق أرشيفية
تكشف الوثائق البريطانية المحفوظة في (أرشيف مكتب الهند) عن حجم الذهول الذي أصاب الإدارة الاستعمارية في العراق. ففي تقرير مؤرخ في تموز 1920، ورد:
"الاضطرابات لم تَعُد محصورة بمنطقة واحدة. الأهالي صاروا يهاجمون خطوط السكك الحديد، ويسيطرون على المحطات. شيوخ العشائر في الفرات الأوسط يحشدون رجالهم، والسلطة المحلية باتت خارج السيطرة. يبدو أن العصيان لم يعُد عمل قلّة، بل تحوّل إلى ثورة وطنية شاملة."
وفي برقية سرية متبادلة بين اثنين من كبار الضباط البريطانيين في بغداد، وردت الجملة التالية:
"إنه لأمر مدهش أن نشهد هذا التعاون بين قبائل طالما اقتتلت فيما بينها. يبدو أن الكراهية لنا باتت أقوى من خلافاتهم."
تلك العبارات لم تُكتب للإعلام ولا كدعاية ثورية، بل كانت اعترافاً داخلياً بأن ثمة شيئاً عميقاً قد تغيّر في العراق، وأن الاستعمار لن يكون رحلة هادئة كما تصوّرته لندن.
نساء الثورة
لم يكن الرجال وحدهم من دوّت أصواتهم في صيف عام 1920، فخلف الجبهات، بل حتى في مقدماتها أحياناً، وقفت نساء عراقيات يهزجن، ويزغردن على وقع البنادق، في الثورة الأولى التي قالت فيها البلاد لا لحكم الاحتلال. وبرغم ذلك، لم يكتب التاريخ أسماءهن كما كتب أسماء شعلان أبو الجون، أو الشيخ ضاري، أو جعفر أبو التمن. لكن الأهازيج ظلت، متوارثة في الذاكرة الشفهية، شاهدة على نساء حملن الثورة، التي امتد أوارها إلى جميع مدن العراق، في الحناجر.
وعلى الرغم من الدور البارز الذي لعبته النساء في الثورة، إلا أن الوثائق البريطانية التي توثق تلك الفترة نادراً ما تذكر مشاركتهن. ومع ذلك، تشير بعض التقارير إلى أن السلطات البريطانية كانت تدرك تأثير الأهازيج والهوسات في تحفيز الثوار، ما دفعها إلى محاولة قمع هذه الأنشطة. لكن النساء استمررن في ترديد الأهازيج، متحديات القمع ومؤكدات على دورهن في النضال الوطني.
تُعرف هذه الأناشيد في العراق باسم (الهوسات) أو (الأهازيج)، وهي نوع من الغناء الجمعي الحماسي الذي يُستخدم في المناسبات الاجتماعية والوطنية، وخلال ثورة العشرين، كانت النساء يخرجن إلى الساحات ويرددن تلك الأهازيج، التي كان لها تأثير كبير في تحفيز الثوار وتعزيز روح المقاومة.
تشير بعض المصادر إلى أن هذه الأهازيج كانت تُستخدم كوسيلة للتواصل بين الثوار، خاصة في المناطق الريفية، حيث كانت وسائل الاتصال محدودة. وكانت الكلمات تحمل رسائل مشفرة أحياناً، تعبر عن رفض الاحتلال وتحث على الصمود والمقاومة.
أهازيج تساند البنادق
في قرى الرميثة والشامية والحلة، كانت النساء يخرجن عند سماع الرصاص، يصفّقن ويهزجن أمام المقاتلين. لم تكن تلك لحظة احتفالية، بل استنفار لرفع المعنويات، وتثبيت الثوار في مواقعهم.
يقول الباحث سامي الزبيدي الذي وثّق بعض تلك الهوسات: "لم يكن بوسع كثير من النساء حمل السلاح، لكنهن حملن الكلمة، وكان وقعها لا يقلّ أثراً عن الطلقة."
واحدة من أشهر تلك الهوسات تقول:
"هزني ونّه ابنك جبال،
هبت عليّ رعود شمال
ابنك هز الدنيا وجال"
وفي موقف آخر، وبعد استشهاد ابنها، هزجت أمّه قائلة:
"موتك رصيده گلبي،
يشهد علي التراب
ضربك على القهر كان
ماهوش عتاب"
فطيمة بنت الظوالم
هي التي هوست على جثمان ابنها، في رواية تناقلها أبناء الجنوب. كانت فطيمة من عشيرة الظوالم تنتظر عودة ابنها من إحدى المعارك ضد الإنجليز، فلما عاد أخوها وسألته: "وينه؟"، أجابها: "جنْ لاهزيتي ولوليتي". فأجابته، وهي تشقّ ثوبها:
"هزيت ولوليت لهذا،
ما هزيت للخايب"
كأنها تقول: هزي لا يُمنح إلا لمن يستحقه، وهو شهيد ما خان ثورته.
عفته بنت صويلح
في مشهد آخر من مشاهد الثورة، أسر الإنجليز ولد امرأة تُدعى عفته بنت صويلح. مرّ أمامها مكبّلاً بالأغلال، فقالت له بصوت يجلجل:
"بس لا تتعذر موش آنه!"
أي: لا تكذب وتقل لهم إنك لست من الثوار. فأجابها:
"حطوني بحلكه وگلّت آنه"
أي: حتى حين صار الموت في فمي، لم أجبن.
بعض الهوسات حملت كلمات صريحة ضد الاحتلال البريطاني، وهجاءً للجبن، مثل:
"ما نرضى بالذل، لا وربي،
نركب الموت ونرگص بحربه"
وأخرى كانت تحفّز على الصبر والتحمّل:
"صبّر گلبي، ياجلب،
النصر إله رجال"
النسيان القاسي
بعد انتهاء الثورة، عادت النساء إلى بيوتهن، مجلّلات بالثياب السود وذكرى الرجال الذين رحلوا. لكن التاريخ الرسمي نسي أسماءهن. إذ لا تُذكر (فطيمة) ولا (عفته) في كتب المدارس، ولا نجد تمثالاً لامرأة شاركت في ثورة العشرين، برغم أن أصواتهن كانت تُرعب الإنجليز بقدر الرصاص.
ومع مرور أكثر من مئة عام على ثورة العشرين، تظل أهازيج النساء صدىً حياً في الذاكرة الشعبية. هذه الأهازيج ليست مجرد كلمات تُردد، بل كانت رمزاً لصمود النساء العراقيات في وجه الاحتلال، وشهادة على دورهن الفاعل في النضال الوطني. إن توثيق هذه الأهازيج والحفاظ عليها هو أقل ما يمكن تقديمه لهن، ليظل صوتهن مسموعاً في تاريخ العراق.