د. دعاء يوسف
في زوايا الأسواق، ومداخل الأحياء، وصفحات التواصل الاجتماعي، تبرز ظاهرة لافتة في العراق: نساء يعملن بائعات متجولات ومندوبات تسويق ميداني، يغيّرن قواعد العمل في بيئة ذكورية تقليدية. فبعد أن كنّ، لسنوات، محصورات في أدوار منزلية، أو وظائف محددة، باتت أعداد متزايدة منهن تقتحم ميادين البيع المباشر، متحملات تحديات النظرة المجتمعية والصعوبات الاقتصادية في آنٍ واحد. يُعد هذا التحول مؤشرًا على التغيرات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة التي يشهدها المجتمع العراقي، ولاسيما في ظل الأزمات المتكررة، وارتفاع نسب البطالة، وتراجع فرص التوظيف الحكومي. نساء في الواجهة في أحد أحياء بغداد، تسير نور محمد، شابة ثلاثينية، بين الأزقة تحمل حقيبة مليئة بمنتجات التجميل. تقول: "أبدأ يومي في الساعة العاشرة صباحًا، أزور المتاجر والدكاكين، غالبية زبائني من النساء اللواتي يعرفنني منذ سنوات." ومع أن نور لا تملك علامة تجارية، لكنها استطاعت أن تكسب ثقة زبائنها القدامى، ما ساعدها على الاستمرار في هذا المجال. تضيف نور: "أحياناً أواجه مضايقات، أو نظرات دونية، من بعضهم، لكنّي أصبحت أقوى مع الوقت، وما يهمني هو أنني أعيل عائلتي بكرامة." وبالرغم من أن هذه التجارب الفردية تبدو بسيطة، إلا أنها تمثل تحولات عميقة في البنية الاجتماعية، وتعيد تشكيل دور المرأة في الاقتصاد المحلي. واقع اقتصادي ضاغط بحسب بيانات وزارة التخطيط العراقية، فإن أكثر من 29 % من النساء في سن العمل يعانين من البطالة، فيما تبلغ نسبة النساء العاملات فعليًا نحو 13 % فقط، وهي من أدنى النسب في المنطقة. وأكد المتحدث باسم وزارة التخطيط، عبد الزهرة الهنداوي، أن هذه الأرقام تعكس حجم التحديات أمام دمج النساء في سوق العمل، خصوصًا في القطاعات غير الرسمية، التي تُعد منفذًا أساسيًا للكثير من النساء اليوم. تحليلات اقتصادية يوضح الدكتور مصطفى حنتوش، الخبير الاقتصادي، أن الظروف الاقتصادية الحالية فرضت نفسها على الواقع الأسري، إذ لم يعد راتب الرجل وحده كافيًا لتغطية نفقات المعيشة، ما دفع الكثير من النساء للبحث عن فرص عمل ومصادر دخل بديلة. ويضيف: "المرأة العاملة أصبحت مطلوبة أكثر من المرأة العاطلة، ليس فقط لتحقيق ذاتها، بل أيضًا للإسهام الفعال في دعم الأسرة وتخفيف الأعباء المالية عن الرجل." ويعتبر د. حنتوش أن هذه الظاهرة تمثل دليلًا واضحًا على تطور الاقتصاد العراقي، قائلًا: "كلما ازدادت نسبة الأيدي العاملة وتنوعت الفئات العمرية والجندرية ضمن سوق العمل، ازدادت ديناميكية الاقتصاد، وحدث نوع من المفاضلة والمنافسة على أساس المؤهلات والكفاءة، وليس فقط على أساس الجنس أو العمر." دور المنصات الرقمية تستخدم العديد من النساء في العراق منصات مثل فيسبوك وإنستغرام وتيك توك للترويج لمنتجاتهن، من أدوات التجميل والعناية بالبشرة، إلى الأطعمة والمشغولات اليدوية. هذه القنوات الرقمية لا توفر فقط وسيلة الوصول إلى الزبائن، بل تمنح النساء أيضًا استقلالية من دون الحاجة لاستئجار محل أو رأس مال كبير. تقول دعاء أحمد، التي تبيع الأكسسوارات المنزلية عبر الإنترنت: "بدأت من الصفر، كنت أعرض بضائعي على صفحات البيع النسائية، والآن لدي دخل شهري يعادل راتب موظف حكومي." نظرة المجتمع برغم النجاحات، يظل العائق الأكبر في بعض المناطق هو نظرة المجتمع، حيث لا تزال بعض الفئات ترى أن عمل المرأة في الميدان، خصوصًا كبائعة متجولة أو مندوبة، خروج على العرف أو التقاليد. يقول د. حنتوش: "أبرز التحديات الاقتصادية التي تواجه النساء تكمن في طبيعة العمل نفسه، إذ تميل النساء غالبًا إلى المهن اليدوية أو الإدارية، التي تتناسب مع ظروفهن الاجتماعية والدينية. في المقابل، الأعمال التي تتطلب ضغطًا عاليًا، أو دوامًا طويلًا، أو سفرًا، غالبًا ما تُعتبر غير مناسبة للمرأة ضمن إطار المجتمع العراقي." هل من دعم حكومي؟ حتى الآن، لا توجد برامج حكومية واضحة، أو سياسات منظمة، تدعم النساء العاملات في التسويق الميداني أو البيع المتنقل. تؤكد الباحثة نغم عدنان أن "غياب الدعم المؤسسي يجعل هذه الفئة عرضة للاستغلال والمخاطر، كما يحرم الدولة من فرص حقيقية لتعزيز الاقتصاد غير الرسمي." وتضيف: "يُفترض وجود برامج تدريبية وتمويلية، وتنظيم عملهن ضمن جمعيات واتحادات توفر لهن الأمان والتطور." أما د. حنتوش فيرى أن الإطار القانوني لا يُميز بين الرجل والمرأة، قائلًا: "هناك دعم قانوني واجتماعي كبير، والقانون العراقي يمنح المرأة مساحة كاملة للعمل والمشاركة في الميدان العام. وهذا يُعد من العوامل الداعمة، حتى وإن كان هناك غياب لبعض الجوانب التنفيذية أو المؤسسية." نقلة اقتصادية قد لا تملك هؤلاء النساء لافتات رسمية أو تراخيص تجارية، لكنهن يقدن تغييرًا هادئًا في بنية العمل، ويصنعن واقعًا جديدًا بجهد ذاتي. واقع ربما يحتاج من الدولة والمجتمع أن يعترف به ويدعمه، لا أن يتجاهله. ويختتم د. حنتوش: "المرأة ليست دخيلة على سوق العمل، فهي موجودة في الدوائر والمؤسسات الرسمية منذ الثمانينيات، لكن الجديد هو توسع دورها في السوق غير الرسمي، وهذا يعكس تحوّلًا دائمًا في بنية الاقتصاد المحلي، وليس مجرّد استجابة لأزمات عابرة."