وسام الفرطوسي
في لحظةٍ ما، وأنتَ تنظرُ إلى السماء العراقيَّة، قد لا يخطر ببالك أنَّ فوقك الآن تمرُّ طائرة، وربما عشراتُ الطائرات، مدنية، دولية، وأحيانًا محلية، تعبرُ هذا الفضاء بثقة متزايدة. ففي شهر تموز الفائت وحده، سُجّلت أكثر من 23 ألف رحلة مدنية في الأجواء العراقيَّة، أي ما يعادل 766 رحلة يوميًا، وفق أرقام الشركة العامة لخدمات الملاحة الجوية، أحد أبرز تشكيلات وزارة النقل. ميزة ستراتيجية لم يكن المجال الجوي العراقي خلال العقود الماضية خيارًا مفضلًا للكثير من شركات الطيران، نظرًا للظروف الأمنية والقيود التقنية، إلا أن الصورة بدأت تتغير تدريجيًا، بل جذريًا، بفضل جهودٍ حثيثة لتطوير منظومات الملاحة الجوية والبنية التحتية الرقمية، إذ باتت الأجواء العراقية، اليوم، ممرًا موثوقًا لشركات الطيران، ليس فقط في رحلات الوصول والمغادرة، بل كطريق عبور اقتصادي وستراتيجي للطائرات العابرة من آسيا إلى أوربا والخليج، وبالعكس. الأرقام تتكلم بحسب بيانات الشركة العامة، فإن عدد الرحلات القادمة والمغادرة من وإلى المطارات العراقية بلغ 7,904 رحلات مدنية خلال تموز الماضي، توزعت بين 3,972 رحلة وصول، و3,932 رحلة مغادرة. واحتل مطار بغداد الدولي الصدارة بـ 3,804 رحلات، تلاه مطار البصرة الدولي بـ 2,302، ثم مطار النجف الأشرف بـ 1,440 رحلة. تعقيبًا على هذه الأرقام والبيانات، يقول المدير العام لخدمات الملاحة الجوية العراقية الدكتور عباس البيضاني لـ"الشبكة العراقية": إن "هذه الإحصاءات لا تمثل مجرد حركة عددية، بل تعبّر عن حيوية اقتصادية وسياحية وروحية أيضًا، خاصة في مواسم الزيارات الدينية الكبرى، التي تستقبل ملايين الزائرين عبر الجو." يضيف البيضاني أن "عدد الطائرات العابرة للأجواء العراقية خلال الشهر الفائت زاد بنحو 150 طائرة عن بداية السنة، بسبب الإجراءات والسياقات الجديدة التي وضعناها والتي تحفّز شركات الطيران على استخدام أجوائنا." ويلفت إلى أن "الشركة تعاملت مع هذه الزيادة الكبيرة بكفاءة عالية، من خلال زيادة الملاكات الفنية المتخصصة، وفتح قواطع مراقبة جديدة، واستحداث نظام حديث لتقسيم القطاعات الجوية حسب حجم الحركة، الأمر الذي أسهم في تعزيز الانسيابية وتقليل زمن العبور ورفع معايير السلامة." رقمنة السماء ويشير الدكتور البيضاني إلى أن "واحدًا من أكبر التحولات التي شهدها هذا القطاع، هو الاعتماد المتزايد على الأنظمة الرقمية الحديثة لإدارة حركة الطيران. إذ لم تعد المتابعة تتم عبر الوسائل التقليدية فقط، بل من خلال تحليل البيانات لحظيًا، واستبعاد الرحلات غير المكتملة أو المعلّقة لضمان دقة الأرقام." وتحرصُ الشركة العامة لخدمات الملاحة الجوية، طبقًا للبيضاني، على "التزامها الدائم بتحديث وتطوير قدراتها في هذا المجال الحيوي، بوصفه ركيزة أساسية لضمان سلامة الأجواء العراقية، وتعزيز ثقة شركات الطيران العالمية بمستوى الخدمات المقدمة في قطاع الطيران المدني." وينبه المدير العام إلى أن "العراق يمتلك اليوم واحدًا من أهم الممرات الجوية في العالم، ما يعزز قدرته على تنفيذ عمليات بحث وإنقاذ دقيقة سواء داخل مجاله الجوي، أو بالتعاون مع دول الجوار، ولاسيما بعد إبرام اتفاقيات ثنائية لتعزيز التعاون الإقليمي." ويجد البيضاني أن "هذه الإجراءات تعكس تقدمًا ملحوظًا في البنية الإدارية والفنية للشركة العامة لخدمات الملاحة الجوية، ما يعزز الثقة الدولية بالعراق كمجالٍ جويٍ آمنٍ وقادرٍ على التعامل مع الزخم المتزايد في الحركة الجوية." ويواصل حديثه بأن "هذه الثقة لم تكن وليدة يومٍ أو شهر، بل نتيجة عملٍ متراكمٍ هدفه إعادة موقع العراق على خريطة النقل الجوي الدولي؛ فاليوم، لا تُعدّ الأجواء العراقية مجرد (طريق مرور)، بل باتت بوابة إقليمية تعتمد عليها شركات الطيران لتقليل المسافات، وخفض التكاليف، وضمان الانسيابية." ويتوقع البيضاني أنْ "يشهد القطاع الجوي العراقي، مع استمرار تطوير البنى التحتية وزيادة التعاون مع سلطات الطيران المدني، طفرة أكبر خلال السنوات القليلة المقبلة، ولاسيما إذا ما تمَّ التوسع في إنشاء مراكز مراقبة حديثة، وزيادة أعداد الملاكات الفنية والمراقبين الجويين المؤهلين." وحدة البحث والإنقاذ يستعرض الدكتور البيضاني عمل وحدة البحث والإنقاذ في الشركة العامة لخدمات الملاحة الجوية، والتي تضم مركزًا متكاملًا للبحث والإنقاذ، مجهزًا بأحدث الأجهزة والمعدات، تديره ملاكات فنية متخصصة خضعت لتدريبات مكثفة داخل العراق وخارجه، بما يضمن الاستجابة السريعة والفعالة في حالات الطوارئ والكوارث الجوية. ويوضح أن "هذه الوحدة تعتمد على نظام عملٍ دقيقٍ يمرّ بثلاث مراحل رئيسة: مرحلة الشك: عند وجود مؤشر أولي لخلل في التواصل أو تأخر الطائرة في الوصول. مرحلة الإنذار: في حال استمرار فقدان الاتصال، أو انحراف الطائرة عن مسارها، أو عند الإبلاغ بوجود مشكلة فنية. والثالثة هي مرحلة الاستغاثة: عند التحقق من وجود خطر مؤكد يهدد الطائرة أو الركاب." ويشير إلى أن "إدارة العمليات تجري بتنسيقٍ مباشرٍ مع جهات رسمية ساندة، منها وزارة الصحة، قيادة العمليات المشتركة، ومديرية الدفاع المدني، بما يضمن تكامل الأدوار وسرعة التنفيذ عند وقوع أي حادث جوي." وبحسب البيضاني، فإن إدارة الشركة "أعدت خطة لتطوير الوحدة، تتضمن: تحديث الأجهزة والمعدات التقنية، وتعزيز قدرات الاتصال والتواصل الميداني، وتنفيذ برامج تدريب داخلي وخارجي بالتعاون مع مؤسسات دولية متخصصة، وبما يتماشى مع المعايير الدولية ويواكب متطلبات الحركة الجوية المتنامية في المنطقة." تحديثات شاملة وضمن خطط التوسع والتطوير، يكشف الدكتور البيضاني عن "نصب رادار جديد من قبل شركة (THALES) الفرنسية في مطار الموصل الدولي، مع استكمال تحديث معلومات وبيانات المطار ونشرها على المستوى الدولي. كما تمَّ تجهيز وتركيب أنظمة ملاحية متقدمة، منها نظام الهبوط الآلي (ILS/DME)، ونظام تحديد الاتجاه (DVOR)، إلى جانب تطوير منظومات الاتصالات بين أبراج المراقبة ومراكز التحكم لضمان التنسيق الدقيق بين الملاحة الجوية والمطارات." وفي مطار بغداد الدولي، يقول البيضاني إنه "أعيد تشغيل جهاز DVOR ضمن منظومة الإرشاد الجوي بعد جهود فنية متواصلة، ما عزز من كفاءة الإرشاد الجوي ورفع مستوى السلامة." دورات مكثفة وضمن اهتمام الشركة بتأهيل ملاكاتها، يبين البيضاني أنه "تمَّ تخريج ستة مراقبين جويين من دورة Aerodrome Control، واختتام دورة إعداد المشرفين (Supervisor Course)، إلى جانب التحاق عددٍ من المتدربين بدورات متقدمة في السيطرة الجوية." معتبرًا هذه البرامج "جزءًا من خطة ستراتيجية تهدف إلى بناء قدرات وطنية مؤهلة لإدارة المجال الجوي بكفاءة عالية." وفي إطار خططها المستقبلية، تعمل الشركة، طبقًا لحديث البيضاني، على التعاقد مع شركات عالمية لشراء رادارين جديدين، أحدهما مخصص للمنطقة الغربية، والآخر يخدم مطار البصرة، بما يعزز قدرة المراقبة الجوية ويسهم في رفع كفاءة إدارة الحركة. يختتم المدير العام حديثه بالقول: إن "هذه الإنجازات تؤكد أن الملاحة الجوية العراقية تسير بثباتٍ نحو إعادة تموضعها كممرٍ جوي محوري في المنطقة، مدعومة بكفاءات بشرية مدرّبة، وتقنيات متقدمة، وخطط تطويرية طموح تضع العراق في موقعه الطبيعي ضمن خريطة النقل الجوي العالمي."