ولادة النور وذاكرة الطقوس البغدادية

ريا عاصي "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (سورة القلم).. بهذه الآية الكريمة يُستهل الحديث عن النبي محمد (ص)، رسول الرحمة الذي وُلد في مكة المكرمة عام 570 ميلادية، في عامٍ سُمّي بـ (عام الفيل). كان ميلاده نقطة تحول في تاريخ الإنسانية، إذ جاء برسالة تُعيد صياغة القيم والأخلاق وتُعيد للإنسان معنى الرحمة والعدل. ريا عاصي ولادة النبي لم تكن مجرد حدث تاريخي، بل تحولت إلى مناسبة روحية واجتماعية ظل المسلمون، عبر القرون، يحتفلون بها بأشكال مختلفة. يُذكر أن حاكم أربيل مظفر الدين كوكبري (القرن السابع الهجري) كان أول من جعل الاحتفال بالمولد النبوي منظمًا وذا طابع رسمي، حين جمع العلماء والفقهاء والناس العاديين في احتفالات تمتد لأيام. ومنذ ذلك الوقت، غدت المناسبة تقليدًا سنويًا راسخًا في وجدان المسلمين. أجواء روحانية في بغداد، التي اعتادت أن تكون مرآةً لتنوع العراق الديني والثقافي، يأخذ الاحتفال بالمولد النبوي شكلًا مميزًا، إذ يحرص البغداديون على إحياء المناسبة في المساجد، وعلى رأسها جامع الإمام الأعظم في الأعظمية، حيث تُقام مجالس الذكر وتُتلى قصائد المديح النبوي وتُوزع الحلوى والمشروبات الدافئة على الزائرين. لكن الطقوس لا تقتصر على المساجد وحدها؛ فالأهالي يقيمون المآدب في البيوت، وتجتمع النساء على إعداد أطباق (الزردة والحليب)، التي ارتبطت بهذه المناسبة منذ قرون. الزردة البغدادية ليست مجرد حلوى، بل هي طبق احتفالي يتكوّن من الرز والحليب والسكر والزعفران، يُطهى على نار هادئة حتى يكتسب اللون الذهبي، ثم يُزيَّن وجهه بخطوط متقاطعة من الدارسين المطحون (القرفة) ليحمل شكلًا فنيًا يبهج العين قبل أن يطيّب الفم. كما تُزيَّن الموائد بصوانٍ من الياس الأخضر والشموع المضيئة والبياضات البيضاء، لتصبح رمزًا للنقاء والفرح. أما المنقبات النبوية فهي جزء أصيل من الاحتفال، حين يصدح المنشدون بالمدائح النبوية، ترافقهم أصوات الدفوف، وسط أجواء روحانية يشارك فيها الصغار والكبار. مائدة الفرح يتذكر كبار السن في بغداد كيف كانت ليالي المولد تتحول إلى مهرجانات صغيرة داخل الأزقة. الأطفال يرتدون الملابس الجديدة، وتُقام حلقات الذكر في المقاهي، بينما يوزع أصحاب الدكاكين الحلوى على المارة. ويبقى المولد مناسبة لتلاقي الناس بعضهم ببعض، لا فرق فيها بين غني وفقير، إذ يجتمعون على حب النبي وذكراه. حتى اليوم، تُحيي العائلات البغدادية هذه الطقوس؛ فتفتح بيوتها للجيران والزوّار، وتُقام جلسات يتعالى فيها صوت الذكر والقصائد، فيما تنبعث رائحة الزردة الممزوجة بالزعفران والدارسين من البيوت، فتغدو بغداد كلّها كأنها مائدة واحدة للفرح. مدينة الضوء على الرغم من التحولات السياسية والاجتماعية التي مرت بها بغداد، ظل المولد النبوي مساحة للبهجة المشتركة. إنه يوم تتجسد فيه القيم التي حملها النبي الكريم: الرحمة، والكرم، والتآخي. بالنسبة للبغداديين، لا يُختزل المولد في الطقوس الدينية فقط، بل هو مناسبة تعيد للمدينة دفأها وتمنح الناس شعورًا نادرًا بالسلام. فالاحتفال هنا ليس مجرد ذكرى، بل هو فعل مقاومة للنسيان، وإصرار على إبقاء بغداد مدينة للضوء، برغم كل ما مرّ بها.