مالك خلف وادي /
في ظل الانفتاح الاقتصادي المتسارع الذي يشهده العراق، والتوسع في حجم الاستثمارات الأجنبية والمحلية، تبرز الحاجة الملحّة إلى وجود بيئة قانونية آمنة وموثوقة لتسوية المنازعات التجارية، وفي مقدمتها نظام تحكيم متكامل مستند إلى تشريعات وطنية واضحة. لقد خطا العراق خطوات مهمة في هذا المجال، من خلال انضمامه إلى اتفاقيتين أساسيتين تعنيان بالتحكيم التجاري والاستثماري، وهما: اتفاقية نيويورك لعام 1958، التي دخلت حيّز النفاذ في العراق في شباط 2022، واتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID) منذ عام 2015. هاتان الاتفاقيتان وفّرتا غطاءً دوليًا لإضفاء الثقة على تعاقدات الدولة مع المستثمرين. مع ذلك، لا تزال هناك حاجة ماسّة إلى تشريع وطني خاص بالتحكيم التجاري، يُنظّم الإجراءات الداخلية ويوفر آليات فعّالة ومتكاملة لفضّ المنازعات، بما يراعي خصوصية السوق العراقي ويلتزم بالمعايير الدولية. في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى إنشاء مراكز تحكيم عراقية معتمدة ذات مصداقية، وتدريب جيل من المحكّمين والمستشارين القانونيين المؤهّلين القادرين على التعامل مع النزاعات بعقلية احترافية وموثوقية دولية. فبناء منظومة وطنية للتحكيم لا يكتمل بمجرد إصدار القانون، بل يتطلب بنية مؤسسية داعمة وكوادر متخصصة تعي تفاصيل هذا الحقل الدقيق، وتُمثّل العراق بكفاءة أمام المحافل الدولية. غياب هذا القانون لا يعني فقط إضعاف أدوات الدولة في حماية مصالحها الاقتصادية، بل قد يدفع الأطراف التجارية للّجوء إلى قوانين أجنبية في تسوية خلافاتهم، ما يضع العراق في موقع "الخصم القانوني الأضعف"، ويمنح الأفضلية للطرف الآخر في تحديد قواعد التحكيم ومكانه ومحكّمه. الأخطر من ذلك، أن غياب تشريع وطني للتحكيم قد يُشكّل ثغرة تُستغل للفساد أو التواطؤ، من خلال تضمين عقود الدولة شروط تحكيم مجحفة أو غير مدروسة، تؤدي في النهاية إلى تحميل العراق التزامات مالية جسيمة نتيجة قرارات تحكيمية تُصدر بالخارج دون رقابة كافية. من هنا، فإن إقرار قانون تحكيم عراقي عصري وشفّاف لا يُعد ترفًا قانونيًا، بل ضرورة وطنية وستراتيجية لحماية المال العام، وتعزيز ثقة المستثمرين، وترسيخ سيادة الدولة على تعاقداتها التجارية. ختامًا، فإن العمل على هذا الملف الحيوي يجب أن يكون أولوية مشتركة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، انطلاقًا من مبدأ أن حماية الدولة تبدأ من إحكام أدواتها القانونية في الداخل، قبل أن تخوض معارك النزاعات في الخارج.
* المدير العام لدائرة تطوير القطاع الخاص في وزارة التجارة