علي الدفاعي /
في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجه العراق، يعود الحديث مجددًا عن المدن الصناعية كمشروع وطني ظل لسنوات طويلة حبيس الخطط الورقية والتصريحات الرسمية. وبرغم البدايات المتعثرة، بدأت بعض المحافظات تشهد خطوات فعلية باتجاه إنشاء مناطق صناعية متخصصة، مدعومة ببنية تحتية مخططة وتشريعات تنظيمية جديدة. لا تُبنى المدن الصناعية دفعة واحدة، بل تُرسم وفق جداول زمنية تمتد لسنوات، تتداخل فيها الاعتبارات المالية والسياسية والفنية. من بغداد إلى البصرة، ومن نينوى إلى ذي قار، تتحرك مشاريع المدن الصناعية بوتيرة متفاوتة، في محاولة لاستدراك عقود من الغياب الصناعي المزمن. تحول تدريجي مع دخول شركات استثمارية وهيئات حكومية على خط التنفيذ، بات من الممكن تلمّس ملامح تحول تدريجي في التعامل مع هذا الملف، ليس بوصفه مشروع بناء مجردًا، بل كصيغة جديدة لإعادة إنتاج الاقتصاد المحلي وتوزيع النشاط الصناعي خارج العاصمة. فهل تنجح هذه المدن في تثبيت حضورها على الأرض؟ أم تبقى في خانة الوعود المؤجلة؟ بحسب بيانات وتصريحات رسمية من قبل وزارة الصناعة والمعادن، فإن العراق يعمل على إنشاء 12 مدينة صناعية موزعة بين عدد من المحافظات، ضمن خطة تهدف إلى تنشيط الاقتصاد الوطني وتقليل الاعتماد على الاستيراد، فضلًا عن توفير آلاف فرص العمل. ووفقًا للبيانات التي اطّلعت عليها "الشبكة العراقية"، فإن المشاريع تشمل محافظات نينوى، والبصرة، وبابل، وذي قار، والنجف، وكربلاء، والأنبار، وواسط، والمثنى، وميسان. وقد بلغت نسب إنجاز بعض هذه المدن أكثر من 90 %، ويُنتظر افتتاح أربع منها خلال عام 2025. صُمّمت هذه المدن وفق معايير بيئية وصناعية حديثة، وتضم بنى تحتية متكاملة تشمل شبكات الطاقة والطرق والمرافق الخدمية، ما يجعلها مهيّأة لاحتضان المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وكذلك الاستثمارات الكبرى. تحفيز الاستثمارات يؤكد المهندس حامد عواد العيساوي، رئيس مجلس إدارة الشركة العراقية الأردنية للصناعة، أن المدن الصناعية تمثل ركيزة أساسية في مشروع النهوض الاقتصادي والصناعي في العراق، لما توفره من بيئة متكاملة تساعد على توسيع قاعدة الإنتاج، وتحفيز الاستثمارات، وتوفير فرص العمل. وقال العيساوي في تصريح لـ"الشبكة العراقية" إن "أهمية المدن الصناعية تكمن في محاور رئيسة عدة، أبرزها تعزيز التنمية الصناعية من خلال توزيع المشاريع الصناعية في المحافظات وتخفيف التمركز في العاصمة، مع خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة للعراقيين، عبر استحداث صناعات جديدة في مختلف القطاعات، إضافة إلى رفع القدرة التنافسية للصناعة العراقية عبر إنشاء مدن صناعية حديثة بمواصفات فنية وتقنية متطورة." وأضاف أن الحكومة، من خلال المؤسسات المعنية، تعمل على تنفيذ خطة ستراتيجية متكاملة لتطوير هذا القطاع، عبر تطوير البنى التحتية الداعمة، مثل الطرق والجسور، والخدمات العامة، مع تقديم حوافز للمستثمرين الصناعيين، منها الإعفاءات الضريبية وتسهيلات التمويل، اضافة الى تعزيز الشراكة مع المؤسسات الصناعية الدولية لتبادل الخبرات ونقل التكنولوجيا وتوفير برامج تدريب وتأهيل الأيدي العاملة الصناعية المحلية. كما بيّن العيساوي أن الخطة تستهدف -بشكل مباشر- إنشاء مدينة صناعية متخصصة في الصناعات الدوائية في بغداد وأخرى للحديد والصلب في البصرة، كما ستكون في نينوى وبابل وميسان مدن صناعية متعددة التخصصات. وأشار العيساوي إلى أن تنفيذ هذه المشاريع يجري وفق جدول زمني يمتد لخمسة عشر عامًا، موزّع على ثلاث مراحل، الأولى (2021–2025) لتطوير المدن الصناعية في ذي قار والبصرة والأنبار، والثانية (2025–2030) لإنشاء مدن جديدة في نينوى وميسان وواسط والمثنى وبابل. أما الثالثة (2030–2035) فستكون لاستكمال البنى التحتية الصناعية وتوسيع الحوافز الاستثمارية وفق قانون المدن الصناعية رقم 2 لسنة 2019. البنى التحتية من جانبه، يقول الخبير الصناعي عامر الجواهري في حديث خاص لـ "الشبكة العراقية": إن "المدن الصناعية باتت تُعتبر جزءًا من البنى التحتية للقطاع الصناعي منذ عشرات السنين، ولنتذكر أن (وادي السيليكون) في الولايات المتحدة هو مدينة صناعية تخصصت بهذا الغرض، وأصبحت نموذجًا عالميًا في النجاح الصناعي والتكنولوجي." وأضاف أن "إنشاء مدينة صناعية لا يمكن أن يتم بشكل واقعي ما لم تكن البنى التحتية والخدمات الأساسية قد وصلت حتى سياج الموقع، وهذه من القواعد الرسمية المعروفة عالميًا. بمعنى آخر، يجب أن تتوفر الكهرباء الوطنية، وشبكة إسالة المياه، وشبكات الاتصالات، وتصريف المياه، وغيرها، وتكون جميعها واصلة فعليًا إلى حدود المشروع." وشدد الجواهري على أن المدينة الصناعية لا تكتمل دون بنى تحتية داخلية أيضًا، موضحًا: "يجب أن تُصمَّم المدن الصناعية بحيث تكون مساحاتها كافية لاستيعاب عدد كبير من المشاريع، وهو ما يجعلها مجدية اقتصاديًا، ويسهّل في الوقت نفسه توفير خدمات أساسية داخلها، مثل شبكة المجاري، وشبكات المياه للشرب وللزراعة، والكهرباء، والدفاع المدني، والمراكز الصحية، والبريد والاتصالات، إضافة إلى مركز شرطة لخدمة العاملين فيها." ولفت إلى أن بعض المدن الصناعية الكبرى في العالم ترفق بها مجمعات سكنية خاصة بالعمال والإداريين. وعن واقع المدن الصناعية في العراق، قال الجواهري: "هيئة المدن الصناعية تشكلت قبل نحو أربع أو خمس سنوات، بناءً على دراسات وتقارير سابقة، ووضعت سياسات عمل وخططًا ستراتيجية لتأسيس مدن صناعية متكاملة."