عباس عبد الرحمن /
في تحوّل ستراتيجي يُعيد رسم خريطة الطاقة والصناعة في العراق، أعلنت الحكومة العراقية عن انطلاقة جديدة لمدينة بيجي في محافظة صلاح الدين، بعد سنوات من التدمير الذي ألحقه الإرهاب بالبنية التحتية لأكبر مصفاة نفطية في البلاد. واليوم، تعود بيجي إلى الواجهة، ليس فقط كموقع إنتاجي، بل كمشروع وطني لتحويل الدمار إلى قصة نجاح اقتصادية وصناعية، ضمن رؤية حكومية تستهدف تعظيم القيمة المضافة من الثروة النفطية. ذاكرة وطنية أنشئ مصفى بيجي في سبعينيات القرن الماضي، بطاقة تصميمية بلغت 310 آلاف برميل يوميًا، ما جعله الأكبر في العراق وأحد الأعمدة الحيوية في منظومة التكرير الوطنية. وكان المصفى يغطي قبل 2014 نسبة كبيرة من الطلب المحلي على المشتقات النفطية، من البنزين والديزل والنفط الأبيض إلى زيوت المحركات والغاز المسال. يمتد المشروع على مساحة شاسعة، ويضم وحدات إنتاجية متقدمة تشمل: * وحدات التقطير الجوي والفراغي. * وحدات التكسير الحراري وتحسين البنزين. * منشآت لإنتاج الغاز المسال. * خزانات ستراتيجية لاحتياطي النفط الخام والمشتقات. * شبكة خطوط أنابيب تربط شمال العراق بجنوبه. سنة الانهيار تعرضت مدينة بيجي ومصفاها في عام 2014 لأضرار كارثية بعد اجتياح تنظيم داعش الارهابي للمنطقة. توقفت المصفاة عن العمل بالكامل، وتعرض أكثر من 70 % من منشآتها للتدمير بفعل العمليات العسكرية، ما أجبر العراق على استيراد كميات كبيرة من الوقود والمشتقات النفطية لتلبية الطلب الداخلي، في خسارة قدرتها تقارير حكومية بمليارات الدولارات سنويًا. بعد تحرير المدينة في عام 2015، وضعت وزارة النفط خطة شاملة لإعادة تأهيل المصفى، جرى تنفيذها على ثلاث مراحل: -1 التأهيل الجزئي لتشغيل الوحدات الأقل تضررًا بطاقة إنتاجية محدودة. -2 إعادة الإعمار الكامل للوحدات الأساسية، باستخدام تقنيات حديثة تزيد من كفاءة التكرير. -3 التحول إلى مدينة صناعية، عبر استحداث وحدات جديدة تشمل صناعات البتروكيماويات والأسمدة والزيوت الصناعية. وفق آخر البيانات الرسمية، وصلت الطاقة التشغيلية الحالية للمصفى إلى 150 ألف برميل يوميًا، مع خطط لرفعها إلى الطاقة القصوى البالغة 310 آلاف برميل يوميًا خلال الأعوام الثلاثة المقبلة. وأكد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أن بيجي لن تكون فقط منشأة تكرير، بل مدينة نفطية وصناعية متكاملة. وتعمل الحكومة على جذب الاستثمارات عبر: * إنشاء مناطق صناعية حرة لتشجيع الإنتاج المحلي. * تطوير شبكة طرق وسكك حديدية حديثة. * توفير الطاقة الكهربائية المستقرة من خلال مشاريع توليد جديدة. * التفاوض مع شركات عالمية لإدخال تكنولوجيا متقدمة في عمليات التكرير والبتروكيماويات. مكاسب متعددة إعادة إحياء بيجي ليست فقط انتصارًا على مستوى البنية التحتية، بل مشروع ستراتيجي له آثار مباشرة على الاقتصاد العراقي، أبرزها: -1 تقليص الاعتماد على الاستيراد في مجال المشتقات النفطية. -2 تعزيز الأمن الطاقي عبر توفير إمدادات محلية مستقرة. -3 رفع الإيرادات عبر تصدير الفائض من المنتجات المكررة. -4 خلق أكثر من 10 آلاف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة. -5 تنشيط الصناعات التحويلية المرتبطة بالنفط والغاز. ضمن الرؤية الحكومية لتحويل بيجي إلى قطب صناعي، يجري العمل على إنشاء مصانع للبتروكيماويات، ووحدات لإنتاج الأسفلت والزيوت الصناعية، إضافة إلى مشاريع تسييل الغاز وتطوير الخدمات اللوجستية. كما تشمل الخطط إنشاء منطقة سكنية متكاملة وبنية تحتية حديثة تستقطب المهندسين والخبراء، لتتحول بيجي من مدينة منكوبة إلى واحدة من أهم مراكز النمو الاقتصادي في العراق. إن ما تشهده بيجي اليوم هو أكثر من إعادة إعمار مرفق نفطي. إنه مشروع وطني يحمل في طياته رسالة مفادها أن الدمار يمكن أن يكون بداية جديدة إذا توفرت الإرادة والتخطيط. وإذا ما استمرت الحكومة في تنفيذ خططها بدقة، فإن بيجي قد تصبح في السنوات القادمة نموذجًا للتنمية المتكاملة، لا في العراق وحده، بل على مستوى المنطقة بأسرها.