100%
رفاه حسن
""اللغة اليوم لم تعد كما عهدناها؛ أصبحت عرضة للتشويه والتسييس والتفكيك من قبل التريندات الرقمية التي تعيد تشكيل المفردات والسياقات كما تشاء."،" هذا ما أكّده الدكتور مصطفى مجيد الحكيم، أستاذ اللسانيات التطبيقية، في إحدى مداخلاته خلال ندوة عن مستقبل اللغة في العصر الرقمي، مشيرًا إلى أن مواقع التواصل لا تكتفي بإعادة صياغة اللغة، بل تفكك بنيتها وتعيد تركيبها وفق مقاييس لم نعرفها من قبل.
في هذه المساحات، لم تعد الكلمة تُفهم كما كنا نعرفها، بل كما تُستخدم على إنستغرام، وتُنتج على تيك توك، وتُهاجم على تويتر.
فخ اللغة الرقمية
هل جرَّبتَ يومًا أن تكتب منشورًا عفويًا، لتجد نفسك في دوامة تأويلات لم تخطر لك على بالٍ؟ لا تتعجب، فقد وقعت – مثل كثيرين – في فخ "اللغة الرقمية". الكلمات لم تعد بريئة، والمعاني لم تعد ثابتة. كلمة مثل "cringe" التي كانت توصيفًا لشيء يبعث على النفور الطفيف، أصبحت تُستخدم سلاحًا لتسخيف أي محتوى لا يتماشى مع أذواق الموجة. و"تفاهة" لم تعد توصيفًا موضوعيًا، بل تصنيف حاد يمليه ذوق التريند السائد. "الطيف" لم تعد مفردة شعرية أو توصيفًا للتنوع البصري، بل باتت تُستخدم رمزيًا في قضايا اجتماعية وثقافية معقدة. كل هذا يؤشّر إلى أن الكلمة في زمن السوشيال ميديا لا تُقرأ بمرجعيتها الأصلية، بل بما تفرضه لحظتها الرقمية. وبدل أن تكون اللغة وسيلة للتفاهم، أصبحت أحيانًا ساحة للالتباس، وربما للصراع.
اللعب بالألفاظ
منصّات التواصل أحدثت تداخلًا لغويًا غير مسبوق. لهجات تتنقل بين الدول، وأفراد يتحدثون بمفردات ليست من بيئاتهم الأصلية. هذا التداخل، ظاهريًا، يبدو احتفاءً بالتنوع، لكنه في العمق يُنتج تآكلًا للفُصحى، ويُعيد ترتيب أولويات اللغة.
"الفتنة" مثلًا، كلمة عميقة ذات دلالات تاريخية وثقافية، باتت اليوم تُستخدم في سياقات جمالية سطحية، تُفرغها من معناها الأصلي. المحتوى الساخر أيضًا لعب دورًا كبيرًا في تغيير دلالة الكلمات. النكتة التي تعتمد على اللعب بالألفاظ، قد تُرَسّخ معاني جديدة أو تبخس معاني قديمة، في أذهان جمهور يتعامل مع اللغة كأداة للضحك لا للفهم.
تفادي الخوارزميات
من المثير للقلق أن المستخدمين باتوا يطورون (لغة التفاف) تُعرف باسم Algospeak، تستخدم رموزًا مثل "k!ll" أو "unal!ve" لتفادي خوارزميات الحظر. هذا لا يُعبّر عن إبداع لغوي بقدر ما يُعبر عن تقييد واحتراز. أصبحنا نكتب لا لنتواصل، بل لنخدع الخوارزمية. وهكذا يولد جيل يُجيد التحايل على الكلمات لا استخدامها. يُجيد النجاة من الرقابة، لكنه يفقد الثقة في اللغة كأداة تعبير. إن هذه اللغة البديلة لا تنمو من رحم الثقافة، بل من ضغط الخوف. وهذا بحد ذاته مؤشر خطير على علاقة الإنسان بلغته في البيئة الرقمية.
مدافن الكلمات
في الزمن الرقمي، صارت اللغة أقرب إلى الموضة. كلمات تظهر فجأة، تحترق بسرعة، وتُنسى بسرعة أكبر. كم من المفردات الفصيحة باتت تُعتبر "ثقيلة"، "قديمة"، أو ببساطة "غير قابلة للنشر"؟ أين "روية" و"فطنة" و"سكينة" من مفردات الشباب اليوم؟ بينما نجد قاموسًا موازيًا على تيك توك، لا مرجع له سوى مقاطع لا تتجاوز 15 ثانية. حتى الكلمات ذات الطابع الأخلاقي أو القيمي بدأت تختفي تدريجيًا. مفردات مثل "حياء"، "مروءة"، "عفّة" نادرًا ما تُستخدم، وكأنها تنتمي إلى زمن غير قابل للاسترجاع.
فضاءات إبداعية
لكن لا يمكننا تجاهل بعض الإيجابيات، فمواقع التواصل أعادت كثيرين إلى فعل الكتابة، وشجعت على التعبير، وخلقت فضاءات للمحتوى الثقافي والإبداعي. بل إن بعض الصفحات على إنستغرام ويوتيوب تحاول إعادة تقديم الفصحى بأسلوب عصري ومحبب. وهناك موجات شبابية بدأت تحاول إحياء القصيدة، وإعادة الاعتبار للسرد، وابتكار طرق جديدة لقول القديم بلغة اليوم. لكن، تبقى المعضلة أن هذا الإبداع لا يُلغي تشويه المعنى وتسطيح المفاهيم واختزال اللغة إلى مجرد أداة ترويج أو ترند.
جسر الأجيال
حين نفقد الدقة، ونطمس الفروقات بين الكلمات، فإننا لا نخسر قاموسًا، بل نخسر جزءًا من وعينا وهويتنا. اللغة ليست فقط لنكتب بها، بل لنفهم أنفسنا، إنها جسر بين الأجيال، بيننا وبين التاريخ، بين الفكرة والتعبير.
الفخ الحقيقي ليس أن اللغة تتغير، فهي بطبيعتها كائن حي، بل في أن نتركها تتغير دون وعي، ودون مقاومة، أن نسلّمها للتريندات لتُشكّلها كيف تشاء، فنفقد السيطرة على المفاهيم والمعاني والهوية.